قرار روسي بمفاعيل قنبلة نووية
سناء أسعد
كما لبدايات الأحداث تشعُّباتها، للنهايات كذلك… وإن كانت الأمور تختلف كثيراً في كلّ مرحلة من حيث طرق دمج التوازنات والتفاعلات، والأهم من ذلك كله أنها دائماً محطة مثيرة للجدل والنقاش على الأصعدة كافة، وذلك يؤول إلى ارتباط كلّ ما يجري بمفصل النزاع الأساسي والذي تعتبر الأرض السورية عقدته ومحوره الذي تلتف حوله تلك الصراعات الدائرة.
فهل سنكون أمام مرحلة جديدة تتماشى مع التطورات والمستجدات المتتالية والمتزاحمة في هذا الفضاء المتقلب بمناخاته السياسية والعسكرية؟ وهل نحن بصدد عميلة إنقاذ استنفدت سبلها ووسائلها كافة، فتم اللجوء إلى طرق أخرى مختلفة كلياً عن سابقاتها من شأنها إعادة إشعال الحرب من جديد أو إخمادها باعتبارها تنازلات أخرى من التنازلات المطروحة لإمكانية إيجاد توافق متكامل للسير بخطوات مدروسة في عميلة الحلول السياسية بالحوار والتفاوض الذين تمّ ربطهما منذ البداية من قبل مَن يسمون أنفسهم بالمعارضة بعدد من الشروط التي لا تخرج عن كونها مجموعة من العراقيل، وإثارة المزيد من التعقيدات لمنع حصول أي توازن من شأنه وضع الحلول في إطارها الجدي؟
في التطورات الميدانية، لا تملك الأطراف المعارضة أوراقاً رابحة، وبالتالي ليست هناك مؤهلات تمكنهم من وضع الشروط، لا سيما في ما يتعلق بموضوع الرئاسة، كنظام قائم بمكوناته كافة من المفروض عدم تجاوزه وتجاهله، خصوصاً بعد الصمود والبقاء، بالرغم من تلك الهجمات الشرسة التي تمّ نسجها بخيوط حرب من شأنها إسقاط أنظمة دول عديدة وليس نظاماً واحداً بعينه، مهما كانت تلك الأنظمة على قدر من الصلابة والمتانة، لكنّ نظام سورية بقيادة الرئيس بشار الأسد ليس «نظام الطاغية الاستبدادي»، كما يدّعون، وهو لا يستمدّ صلابته ومتانته من قوة الظلم والعنف التي يفرضها على شعبه كما يتبجّح الخونة والعملاء، وإلا كان سقوطه أمراً محتوماً منذ بداية افتعال الأزمة السورية…
إنّ العودة إلى جنيف 3 لا تعني البتة الوصول إلى تطورات من شأنها وضع الأمور الشائكة أمام جملة من الفرضيات تخلص إلى اتفاقيات سلمية عديدة، وما علينا نحن سوى الاختيار بين أفضلها وأكثرها ملاءمة، لا سيما أمام معمعة الإفصاح الإجرامي ممن أسموه كبير المفاوضين خليفة زهران علوش في القتل وسفك دماء الأبرياء محمد علوش الذي هدّد مؤخراً بـ«رحيل الأسد حياً أو ميتاً». فكيف يكون التفاوض أمام هذا الافتقار الأعمى إلى الأسس والحيثيات التي يجب الانطلاق منها، ووسط ذلك التجاهل والإجحاف الحاقد لحقّ الشعب السوري في تقرير مصيره من باب الأولوية التي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار، ومن منطلق الإيمان بوطن حرّ مستقل بعيداً عن التدخلات الخارجية بأبسط حقوق هذا الشعب.
وهنا لا بدّ من السؤال عن قرار روسيا بشأن سحب قواتها من الأراضي السورية، إذ لا أحد ينكر أنّ هذا القرار كان مفاجأة كبيرة ذُهل بها العدو قبل الصديق: لماذا الآن؟ وهل في التوقيت مقصد وغاية تزامناً مع إطلاق مفاوضات جنيف؟
كما يسأل البعض: هل يمكن ربط هذا القرار بكلمة وزير الخارجية السوري وليد المعلم مؤخراً؟
هل تخلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن الرئيس الأسد؟ إنّ تداول هذه العبارة سيكون بيت القصيد وسيحطم الأرقام القياسية ويستحيل تجميدها كرقم في سجل إحصاء أو تعداد عادي.
من الطبيعي أن يكون هذا القرار مادة دسمة ومستغيثة ستكون في متناول الجميع وسيتم وضعها على باب الفرضيات والتكهنات، لكنّ ذلك كله سيعود، جملة وتفصيلاً وبشكل حتمي، إلى المواقف المتبناة إزاء الأزمة السورية منذ بدايتها، ولكن لن نكون بصدد عملية إنتاج جديدة أمام تلك التصريحات والقرارات، مهما تغيرت مصادرها، بل سنكون أمام عملية قطف ثمار أو حصاد ما تمّت زراعته من قبل…
إذا كان القرار الروسي قد اتخذ ليكون ورقة في المسار السياسي المُتّبع في جنيف، فلن يكون بالتأكيد للضغط على الحكومة السورية ولرفع معنويات المعارضة للاستمرار في جموحها ووحشيتها، بل لإسقاط ورقة لطالما لوّحت بها المعارضة، كشرط لا بدّ من تحقيقه للمضي في العملية السياسية، وليس رداً على ما صرّح به المعلم، فروسيا تعترف بسيادة سورية، كدولة قائمة بذاتها، والاتفاقات المشتركة بينهما لم تكن يوماً عبارة عن إملاءات على الحكومة السورية، ولو تعوّدت سورية يوماً سياسة الإملاءات والتبعية لما شهدت ساحاتها تلك الحروب، ولا عانت ما تعانيه كثمن لثبات مواقفها ومبادئها والرفض القطعي للمساومة عليها.
روسيا لا تتّبع سياسة الغموض التي تتطلّب الكثير من القراءات لتفسيرها وإيضاحها، وإلا لما كانت دخلت خضم هذه الحرب من الأساس ولبقيت على الحياد.
جميع التفسيرات والتحليلات واردة إلا تلك التي تقول إنّ ذلك القرار هو تخلٍّ روسي عن سورية ورئيسها أو عن مواجهة الإرهاب، لا سيما أمام ذلك التقدم الميداني لتخرج منه روسيا بعد كلّ ما قدمته كعدو وليس كصديق وحليف…
ما يجري اليوم لا يمكن أن يصبّ في موضوع الخلافات والاختلافات بين روسيا وسورية التي قدمت الكثير من التنازلات للابتعاد عن حافة الهاوية، سواء في ما يتعلق بالمصالحات، والعفو عمّن ساهم في دمار هذا البلد من باب العمالة والتبعية الصهيونية العمياء بقصد مكاسب لا تصبّ مطلقاً في مصلحة الوطن باحتمالاتها كافة، والأمر يتصل بقبول الهدنة أو تلك المفاوضات مع مَن يقفون في التصنيف مع الفئة السابقة التي تمّت المصالحات معها…
تلك التنازلات لا تشير إلى عجز الحكومة السورية عن تحقيق النصر من دونها، بقدر ما يمكن توصيفها بأنها عطاءات متزايدة للسير في عملية الحلول التي تتزامن مع التقدم الميداني ضدّ الإرهاب، هذا التقدم الذي سيستمر، رغم كلّ التطورات، حتى يتمّ تحرير كلّ شبر من الأراضي السورية، مع روسيا وباقي الحلفاء، من منطلق الحفاظ على سيادة الأراضي واستقلالها ومواجهة الإرهاب الذي لا يميّز بين صديق أو عدو، والذي سيمتد عبر الحدود كافة باحثاً عن بيئة حاضنة لتعصبه وتطرفه.
القواعد الروسية لا تزال داخل الأراضي السورية، ودخول روسيا هذه الحرب وخروجها اتفاق مشترك مع سورية وليس احتلالاً أو تبعية ولا تخلياً أو هزيمة، كما زعم ويزعم البعض، ولا هي عملية بيع وشراء ولا مزاد علني لمن يدفع أكثر ولا عرض مسرحي بنهاية تراجيدية غير متوقعة لعدم ارتباطه بتسلسل الأحداث فتفاجئ الجمهور بها، ولا هي علاقة غرامية لم تتوّج بعرس كبير لعدم الاتفاق على مهر يرضي الطرفين.
وتبقى عملية الفصل ضرورية وسيبقى لنا الضوء الذي نرى من خلاله الأمور مشرقة، مهما كثرت جوانبها المظلمة، فالوضع السوري ليس ميئوساً منه والمكائد لم تعُد أمراً غامضاً يصعب اكتشافه والتراجع غير ممكن.
وروسيا لن تكون يوماً عدواً، فما قدمته وساهمت به في هذه الحرب لمساندة سورية، بدءاً من الفيتوات وإحباط كافة المشاريع التي من شأنها المساس بسيادة الأرض السورية، وصولاً إلى التسارع في التقدم الميداني مع أبطال الجيش العربي السوري.