قرار بوتين يوضح خلفياته بين خيارات السلم والحرب
ناصر قنديل
– يختلف المحللون حول الجهة المستهدَفة بقرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الإعلان عن سحب الجزء الرئيسي من قواته من سوريا عشية بدء المفاوضات حول الحل السياسي في جنيف، بين من يفترض أن الهدف هو ترك الدولة السورية في وضع قلق في المفاوضات لتتقبل تنازلات ما كانت لتقبلها لو كانت كما قبل القرار تستشعر حجم الدعم الناجم عن الوجود الروسي، بمثل ما هي رسالة للآخرين بأن موسكو لا تغطي ما سيتخذه الوفد السوري الرسمي في المفاوضات ولا تتحمّل تبعاته، بينما يرى تيار مقابل أن القرار الروسي يضع الدولة السورية بعدما تحسّن وضعها العسكري واستقوت به في مكانتها التفاوضية ورسم قرار مجلس الأمن سقفاً مريحاً لها للتفاوض، في وضعية مريحة في جنيف، كدولة سيدة مسؤولة عن مواقفها لتحتل روسيا موقع الحكم والوسيط بإعلان رئيسها الانسحاب، وتقول روسيا للآخرين إن المرحلة الأولى من الحرب التي تمهّد للحل السياسي أنجزت بإقفال الحدود التركية وحسم تصنيف جبهة النصرة على لائحة الإرهاب، وهي الحصان الذي راهن عليه الغرب وحلفاؤه لاختراق الحل السياسي، كما وضعت الجماعات المعارضة بين خيارَي الالتحاق بالنصرة أو دخول الحل السياسي تحت سقف قرار أممي يدعو لتشكيل حكومة سورية موحّدة، ويترك الرئاسة لصناديق الاقتراع.
– المختلفون على تحديد مَن هي الجهة المستهدَفة بقرار الرئيس الروسي متفقون على كون المرحلة التي تمر بها الحرب على سوريا وأزمتها وتداعياتها هي مرحلة مفصلية، ستنتهي إما بنجاح مساعي الحل السياسي أو بفشلها، وهذا يعني أن تفحُّص انعكاسات قرار الرئيس بوتين على فرضيتي نجاح الحل السياسي وفشله، سيكشف الجهة المستهدَفة بالقرار، ففي حال نجاح الحل السياسي، هذا يعني قبول الدولة السورية بحكومة موحّدة مع المعارضة تتولى الإعداد لدستور جديد وتليه انتخابات نيابية ورئاسية برعاية أممية كما نص القرار 2254، وأن القوى المرشحة للمشاركة بالحكومة والانتخابات تستثنى منها جبهة النصرة التي تشكل القوة المحورية بين التشكيلات المناوئة للدولة السورية. وهذا الخيار يعطله اليوم عناد الوفد الذي يحتكر تمثيل المعارضة بدعم سعودي تركي أوروبي وبصمت أميركي، فيرفض هذا الوفد ضم فضائل معارضة أخرى للتفاوض، خصوصاً الأكراد، ويرفض صيغة الحكومة الموحّدة ببقاء الرئيس السوري ويشترط العودة لهيئة الحكم الانتقالي بدون الرئيس السوري، وهو ما جاءت القوات الروسية لتغييره ونجحت باستصدار ما يترجم هذا التغيير بقرار عن مجلس الأمن الدولي بعد نجاحها في عقد لقاء فيينا، تحت هذا العنوان، مصير الرئاسة السورية يخص السوريين، ويُبحث بالتوافق بينهم أو تحسمه الانتخابات.
– تأثير قرار الرئيس الروسي على فرضية الحل السياسي يتمثل بربط مواصلة الحرب على داعش والنصرة، بإقلاع الحل السياسي، ومنع الأوهام الغربية والإقليمية التي تظن وتفترض أن روسيا جاءت وستبقى وستغرق ما لم تحقق الإنجازات، ولذلك فهي مضطرة لمواصلة الحرب ضد داعش والنصرة وتحمُّل الكلفة نيابة عن العالم، الغربي والإقليمي، رغم مراوحة الحل السياسي في سوريا، أو ستُضطر لأجل هذا الحل أن تضغط على حليفها الرئيس السوري ليتنازل عما منحه إياه القرار الأممي والقبول بما يضمن التوافق مع وفد الرياض للمعارضة وبشروط هؤلاء لضمان الحصول على تغطية حكومة سورية موحّدة يدعمها ويعترف بها المجتمع الدولي وترضاها القوى الإقليمية، فيأتي هنا القرار الروسي ليقول للجميع، لا تحلموا فلن نخوض الحرب على الإرهاب وحدنا، ولذلك أنهينا المرحلة اللازمة من الحرب، لاستيلاد حكومة سورية موحّدة تشترك مع القوى الإقليمية والدولية في القسم المحوري من الحرب على الإرهاب وفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي، وعندها روسيا شريك كسواها في هذه المسؤولية إلى جانب حكومة سورية يعترف بها العالم ويشاركها المسؤوليات، ولأن قرار موسكو يضمن انسحاب روسيا من الحرب التالية، أي ضد داعش والنصرة ويوقف العد التنازلي للوجود العسكري في سوريا، فهو يتحرّر من الضغوط التي تقول له إن ضمان تشكيل هذه الحكومة هو أن تضغط موسكو على دمشق لقبول ما هو دون القرار الأممي، وترتضي بحكومة تتمتع بصلاحيات الرئيس الذي عليه أن يرتضي البقاء شكلياً، ومنح الرياض وأنقرة نصراً لم يتحقق في الميدان لأن روسيا في مأزق. وهكذا يقول الرئيس الروسي، لكل هؤلاء، لست في مأزق، وعليكم الاختيار بين حلّ على مقاس القرار الأممي أو اللاحل، وعندها ليست موسكو مضطرة لتحمل تبعات الفشل، فليتحملها من يرفض تطبيق القرار الأممي وهو ليس الرئيس السوري حليف روسيا، بل الذين يدعمهم الغرب وحلفاؤه.
– الجوهري في قرار الرئيس الروسي هو هنا، أي في فرضية انهيار المفاوضات، بسبب الدلال والدلع اللذين يتعامل عبرهما الغرب مع السعودية وجماعاتها، فالقرار يقول إن فرضية انهيار المفاوضات صارت جدية، والعودة للمواجهة صارت ممكنة، وليست روسيا هنا طرفاً فيها فهي قد انسحبت، وعلى الذين يعرقلون نجاح المفاوضات وضع هذه الفرضية بحساباتهم، وقد صار الجيش السوري وحلفاؤه في وضعية تمكنهم من مواصلة الانتصارات العسكرية من جهة، ومن دون أن يكون بيد أحد القول إن الحرب تدور مع روسيا وجهاً لوجه. ومن جهة مقابلة يترك الرئيس الروسي وفقاً لقراره بيد الرئيس السوري وجيشه شبكة دفاع جوي هي الأشد تطوراً في العالم ليقول لمن يفكر بتدخّل قوات جوية تركية أو إسرائيلية أو سعودية، أن يد الجيش السوري صارت طليقة وتُمسك زناد صواريخ نوعية، وليست مقيدة بفعل الوجود الروسي المعني بإقامة حسابات ومراعاة موقع الدولة العظمى ومكانتها، وبالتالي فكما انهيار التفاوض صار وارداً، والعودة للمواجهة واردة، فإن التفوق السوري فيها صار مضموناً سواء في مواجهة الجماعات المسلحة ومعها داعش والنصرة، أو بحال فرضيات التدخلات الإقليمية جوياً.
– القرار الروسي يقول، على مَن يريد تفادي مواجهة مع الجيش السوري المتفوّق اليوم، والمزوَّد بأحدث ما في الترسانة الروسية، والمتحرّر من عبء مسؤولية روسيا العسكرية والمعنوية عن أي مواجهة، أن يمنع انهيار المفاوضات، بالضغط على جماعة الرياض للقبول بأمرين معاً، الأول احترام الطابع المتعدد للوفد المفاوض، كما نص عليه القرار الأممي، والتنازل عن حصرية التمثيل تحت التهديد بالانسحاب، والثاني القبول بأن شأن الرئاسة السورية ليس مسألة دولية بل سورية. وما دام التفاوض لم يوصل لحل بصددها، فتركها للانتخابات هو الخيار الذي حدّده القرار الأممي والحل المتاح هو ارتضاء المشاركة في حكومة في ظل الرئاسة وصلاحياتها، حتى تحين الانتخابات، وهكذا يقول القرار الروسي، للاعبين الدوليين والإقليميين الذين افترضوا جنيف مسرحاً لابتزاز روسيا وسوريا معاً، عليكم انتظار ولادة حكومة سورية موحّدة تحت ظل رئاسة الرئيس السوري وضمان الاعتراف الدولي والإقليمي بها والتعاون معها ورفع العقوبات عن سوريا، ليتسنّى البحث مع روسيا تحت قبة الأمم المتحدة بالخطوة الثانية من الحرب، وإلا فلتفشل المفاوضات وسوريا لن تتنازل وروسيا ليست مُحرَجة بالفشل، ووجهة داعش المقبلة ليست روسيا بل أوروبا، ولن نحميكم وأنتم تتآمرون علينا، وبالمقابل ليعُد المتحاربون إلى سلاحهم والكلمة الفصل ستكون للميدان، وقد صار الميدان جاهزاً ليقول ما يريح سوريا وروسيا، فلا تجرّبونا!
– موسكو ودمشق في وضعية رابح رابح وخصومهما على الجبهات كلها في وضعية خاسر خاسر.