شهداء الصحافة: تركيا… ويستمرّ «العزل»
روزانا رمّال
لم يتغيّر شيء منذ عهد العثمانية، التخلّص من الأقلام من أجل المحافظة على السلطة والحكم والإمعان في احتكاره حتى أجيال تتوالى ولو رغبت التغيير.
ليس بعيداً عن ذكرى شهداء مجزرة الأرمن يعود السادس من أيار اليوم من دون الحاجة للاحتفال به استذكاراً لما كانت قد تحمّلته الصحافة التي أعدمت في ساحتي البرج بيروت والمرجة دمشق عام 1916 على يد جمال باشا السفاح قائد الجيش العثماني الرابع الذي عاث فساداً منذ فرض سلطانه على بلاد الشام عام 1915.
ليس وارداً عند السلطات العثمانية تلقّي توجيه الانتقاد اليها، وليس وارداً للشعراء والمثقفين أن يجدوا ضالّتهم في بلاد بسطت السلطنة قوتها وأحكمت قبضتها عليها، هذا كان يستتبع عقوبات إعدام بشتى الطرق والأشكال.
يتفاجأ الناس اليوم مما يشاهدونه من مجازر في سورية والعراق وأينما تحلّ الجماعات الإرهابية، باعتبار أننا اليوم نعيش زمن الديمقراطية والانفتاح الذي يستوجب بعض التقدير للإنسان والإنسانية، إلا أنّ المفارقة تأتي بعد التمعّن بما أفرزته سياسة تركيا الحديثة وارتباطها بتنظيمات إرهابية أبرزها جبهة النصرة أحد أهمّ فروع تنظيم القاعدة في بلاد الشام، هذه الجبهة فتحت طريقاً سالكاً مع أمنيين أتراك استطاعت التوصّل معهم أكثر من مرة إلى إجراء تبادل للأسرى والمعتقلين لديها في العراق ولبنان، إضافة الى حماية أيّ أسير تركي في أحداث المنطقة اليوم ما شرح العلاقة الفريدة بين الطرفين عنوة. مذابح النصرة في سورية والإعدامات التي جرت وما يرافق من ممارسات داعش الوحشية تشبه الى حدّ بعيد التطرف الذي كان يسود السلطنة العثمانية، فكلّ السلاطين دأبوا على إجراء الإعدامات وقطع الرؤوس في الحدائق العامة وحدائق القصور الخاصة لأيّ مثقف أو شاعر أو فنان او رسام او كاتب يقدّم للناس مفهوماً مختلفاً عن مفهوم السلطان، وهنا مارس جمال باشا السفاح الأمر العثماني وقطع الطريق على أيّ اختلاف للرأي في لبنان وسورية.
أردوغان حفيد هذا التاريخ الدنيء شاء أو أبى، وهو يفتخر بهذا الأمر ويدعو للمحافظة على هذا الإرث ولا يعبّر بتاتاً عن أي رغبة بانتقاد ممارسات أجداده، أقله في مسألة مجزرة الأرمن التي يعترف بها العالم كلّه ويدينها، والتي أفرزت خصومة كبيرة بين الأرمن والأتراك لا تزال حتى الساعة حاضرة بكلّ قوتها.
الخصومة نفسها تتكرّر لكن مع شعب آخر، وهو الشعب السوري، وتحديداً في حلب التي ذاق أهلها الأمرّين من موقف تركيا من الأزمة السورية، والذي يدرك النهب والسرقة وتهديم المنطقة الشمالية عن سابق إصرار وتصميم. ويدرك أيضاً نفوذ اردوغان وسطوته على القوى الإرهابية المسلحة هناك والتي شرّدت وقتلت عدداً كبيراً جداً من السوريين وعاثت في بلادهم فساداً. لم يعُد الشعب السوري قادراً على إعادة عقارب الساعة الى الوراء وبات على الجوار القناعة بأنه بعد التوصل لحلّ سياسي سلمي أن سورية ستكون امام تحدي قبول الجار الجديد السفاح مهما كان شكل السلطة فيه، بقي أردوغان أم لم يبق، فتركيا دخلت فجر الخصومة مع الجيران الممزوجة بحقد شديد جراء الظلم الذي يشعر به السوريون.
تقترب تركيا اليوم إذا لم يتمّ تدارك السلوك السياسي المتطرف من منطق العزلة نفسها التي تعيشها «إسرائيل» مع الجوار في المنطقة، بسبب ممارساتها العنصرية وعلى الظلم والقهر الذي يتعاطى به الكيان مع أبناء وأصحاب الأرض في فلسطين المحتلة ولو ارتضوا ظلم الاحتلال أو حتى تحمّلوا بعض قوى الأمر الواقع الذين تلاعبوا بمصيرهم واشتروا كرامتهم بتحالفات سياسية ملتبسة. أيضاً لتركيا يد طولى في تحالفاتها وعلاقاتها معهم من مجموعات تابعة للإخوان المسلمين أبرزها حركة حماس التي ألجمت ضمن سياسة تركيا وضبط نشاطها خدمة لمصلحة «إسرائيلية» مباشرة وغير مباشرة.
شهداء الصحافة اللبنانية الذين أُعدموا في ساحة البرج لم يعودوا وحدهم اليوم، فساحات سورية شهدت تعليق مشانق أبرياء ممن أرادوا إيصال صوت الحق وجاؤوا من حول العالم وذبحوا على يد النصرة وداعش حلفاء تركيا وممثليها اليوم.
لم يعد ممكناً التغاضي عن قدرة أردوغان على بث الكراهية في صفوف الشعوب بدءاً من منطق محلي وصولاً للسياسة الخارجية، فحربه مع الإعلام ومع كلّ مَن ينتقده حرباً لم تنته حتى الساعة، وها هو أمر القضاء التركي بوضع صحيفة «زمان»، المعارضة لأردوغان، تحت الحراسة القضائية مثال حي وبسيط على ذلك، كيف بالحال مَن يعارض تنفيذ سياسة تركيا في سورية وحتى مَن يوالي النظام السوري ويقف وجهاً لوجه مع الرئيس الأسد، فمصيره «الذبح» وإنْ كان في ذلك له حق التعبير، إذا وقع بين ايدي المجموعات الإرهابية المدعومة من تركيا بأجهزتها الامنية ومعابرها… هكذا يقول سيرغي لافروف وزير خارجية روسيا…
يتغنّى أردوغان كثيراً بـ«الإرث العثماني» ويعد دائماً بالمحافظة على هذا «المجد» الذي ورثته تركيا كحضارة وثقافة، وهو يبرز بشكل كثيف في سلوكه الذي بان في معرض «ثورات الربيع العربي» واندفاعه نحو تمديد نفوذ حزبه العدالة والتنمية بمختلف تفرّعاته فلا اعتذار من الحاكم التركي الجديد عن مجازر الصحافة ولا مجازر الأرمن، واليوم يُضاف أن لا اعتذار للشعب السوري المنكوب على يد التعسّف التركي…