التحرير عام 2000: الحدث الذي لا زال مستمراً
ناصر قنديل
– في عيد التحرير والمقاومة لا يمكن مقاربة الحدث التاريخي الذي عرفه لبنان واللبنانيون ومعهم العرب وسائر أحرار العالم، كمجرد حدث عظيم صار من الذكريات الجميلة وترسّخ بين الأعياد الوطنية، عندما تمكّن هذا البلد العربي الصغير بدولته الضعيفة أن يسترجع أراضيه المحتلة دون تفاوض ودون قيد أو شرط، من «إسرائيل» الدولة القوية ذات الجيش الذي لا يُقهر، والتي لم تتمكن مصر البلد العربي الأكبر وذات الجيش الأقوى أن تسترجع أراضيها المحتلة منه دون أن تدفع ثمناً غالياً هو اتفاقيات كامب ديفيد التي لا تزال تشكل قيداً على سيادتها وإصابة في مهابتها. فالحدث بحجمه زلزال بقيت تداعياته ترسم المشهد الإقليمي وبعضاً من المشهد الدولي، ولا تزال، وبقيت تداعياته تلقي بظلالها على لبنان واللبنانيين والمنطقة، وإنجازاته بصمات حاضرة في حياة لبنان والمنطقة.
– في 25 أيار 2000 انتهت حقبة عربية وعالمية كان عنوانها دور القوة في صناعة السياسة، وبدأت مرحلة جديدة عنوانها قدرة الشعوب على تغيير مسارات معادلات القوة. فالاختبار الذي كان جنوب لبنان مسرحه، كانت الشعوب في ضفة بأضعف دعم ممكن أن يتوفر لها في معادلات القوة، ومقابلها على الضفة الأخرى معادلة القوة العارية بلا أيّ ضوابط أو محرّمات، وكانت حصيلة حرب العشرين عاماً بينهما حرباً عالمية بين المقولتين، حيث لا يمكن للاختبار اللبناني ألا يحكم نتائج ما يشبه اصطفافاته مبشراً بنتائج مشابهة بقوة المثال، والإثبات أنّ ما أمكن في لبنان سيكون أشدّ وفرة في الإمكانية في سواه، وكان ممكناً بوجه «إسرائيل» سيكون أيسر في الإمكانية بوجه سواها، فما أخطأ الراحل الكبير الزعيم هوغو تشافيز عندما قال إنّ انتصار المقاومة في جنوب لبنان يعطي الثقة بأنّ بيد الضعفاء والفقراء أن يصنعوا مصيرهم بأيديهم، معلناً بدء ثورات البوليفاريين في أميركا اللاتينية للتحرّر من الهيمنة الأميركية، ولا كان خطأ أن تقرأ روسيا وإيران الحدث كعلامة على شيخوخة منظومة القوة التي تتصدّرها واشنطن في العالم وتشكل «إسرائيل» مخلب الذئب فيها، والثقة بالقدرة على تثبيت موازين دولية جديدة، بدأت ملامحها مع صعود الملف النووي الإيراني من جهة، وصعود نجم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومعادلاته لصناعة التوازن الدولي من جهة أخرى، كما كان من الطبيعي أن تقع الهزات الارتدادية في واشنطن بفعل المدّ الذي أطلقه الزلزال الكبير، فتنطلق الحملة العسكرية الإمبراطورية نحو العراق وأفغانستان لتطويق سورية وإيران وإخضاعهما وكسر ظهر المقاومة وردّ الاعتبار لليد «الإسرائيلية» العليا في المنطقة، كما وصفت وزيرة الخارجية الأميركية غونداليسا رايس حرب تموز بعد ست سنوات لسحق المقاومة بمخاض ولادة شرق أوسط جديد، ويصف باتريك بوكانن الزعيم في الحزب الجمهوري والمناوئ للرئيس جورج بوش حربه على العراق بحرب ردّ الاعتبار لـ«إسرائيل».
– في 25 أيار 2000 انكسر مع الاحتلال «الإسرائيلي» قفل السجن الفكري الذي وضع حول عنق الشعب الفلسطيني لسوقه إلى التسويات المذلة بداعي أن ليس في الإمكان أفضل مما كان، فانطلق الفلسطينيون في مقاومتهم وانتفاضتهم حتى تحرّرت غزة عام 2005 وتكرّست مقولة سقوط «إسرائيل» الكبرى التي بدأت تتقلص وراء الجدران وتناقش جدياً للمرة الأولى مدى فعالية نظرية احتلال الأرض، وبرزت نظرية «إسرائيل العظمى» القائمة على قدرة الردع «الإسرائيلية» والسعي لمقايضة أمن دول الجوار باتفاقيات سياسية واقتصادية. وهي القدرة التي صارت موضع شكوك بعد عام 2000 ما استدعى خوض حرب تموز 2006 لتأكيدها فكانت الكارثة المدوية على «إسرائيل» بسقوطها وسقوط «إسرائيل» العظمى معها. وقد ثبتت أثار زلزال العام 2000 في الوثائق «الإسرائيلية» التي راجعت أسباب الفشل، كما في مقالات تنبأت بعد التحرير بانتقال العدوى إلى فلسطين كما فعل زئيف شيف في 28 أيار 2000 في مقالته الشهيرة في صحيفة هآرتز، عندما قال لن يتأخر الفلسطينيون ليخرجوا إلى معبر إيرتز حاملين علم بلادهم.
– في 25 أيار 2000 سقطت حقبة النظام العربي الذي تلاشى في ما عُرف بالربيع العربي بعدما سقطت منظومته الفكرية ونظرية الأمن التي تأسس عليها، وهي أنّ تفادي الخطر «الإسرائيلي» يمرّ من بوابة الخضوع لواشنطن، وأنّ فاتورة ذلك إخضاع قواعد الحياة السياسية والاقتصادية ومنظومة الحريات للمعايير التي ترضي واشنطن، ليطيح زلزال عام 2000 بكل هذه المنظومة، ويقول إنّ قهر «إسرائيل» أسهل وأقلّ كلفة مما تتحدّثون، وما تريدون تدفيعنا أو ما تدفعون. وكان التعبير الأوضح عن هذا السقوط اضطرار هذا النظام إلى ممالأة المقاومة والتقرّب منها والتغاضي عن تحوّل قائدها إلى الرمز الشعبي العربي الأول، تنتشر صوره في كلّ البيوت والأماكن العامة، ويتحوّل علم حزب الله إلى زينة للعزة والكرامة تزهو بها كلّ المناسبات الوطنية وصولاً إلى الأعراس. وكانت الحرب المعاكسة على هذا السقوط، بتهيئة البدائل قبل الإيذان بالسقوط، فكان مشروع العثمانية الجديدة وأخونة المنطقة، وبجواره مشروع الفوضى والفتنة المذهبية وشحذ سكين تنظيم القاعدة وتشحيمه بعدما كان قد صدأ لقلة الاستعمال. وفي جوار هذين المسارين مسار ثالث هو مسار الحرب التي شنتها «إسرائيل» في تموز 2006 تحت شعار الملك السعودي فليدفع المغامرون ثمن مغامرتهم.
– في 25 أيار 2000 دخل العالم والمنطقة حرب الاستراتيجيات الكبرى المستمرة حتى اليوم، والتي تشكل سورية ساحتها المركزية، سورية حافظ الأسد وسورية بشار الأسد التي حصّنت المقاومة ورعتها وآمنت بها خيار استراتيجياً. وهي سورية التي لا تزال المقاومة تشكل قيمتها المضافة، والتي يقرّ المنخرطون فيها على الضفتين أنها ستقرّر شكل النظامين العالمي والإقليمي الجديدين، وتحوّل لبنان بفضل هذه المقاومة إلى دولة عظمى يحظى أهل المقاومة فيه بشعور الفخار لانتمائهم للمدرسة التي رفعت رأسهم ورأس كلّ أحرار وشرفاء العالم عالياً، بينما يحظى الذين يخاصمون المقاومة فيه باهتمام القوى الكبرى ويعامل رئيس حكومة كالرئيس فؤاد السنيورة بسبب عدائه للمقاومة في البيت الأبيض باهتمام لم يتح لرئيس الحكومة اليابانية، لأنه في البلد الذي يمكن أن يلحق فيه الأذى بالمقاومة التي خرّبت مشاريع أميركا في المنطقة وأذلّت قوتها التي لا تقهر التي تمثلها «إسرائيل».
– 25 أيار أنهى مراحل وافتتح مراحل فاستحق بجدارة صفة الحدث التاريخي وكتب بأحرف من نور أسماء الذين صنعوه وسيبقون علامة مضيئة في طريق اللبنانيين والعرب وأحرار العالم، وفي مقدّمهم الشهداء القادة الشيخ راغب حرب والسيد عباس الموسوي والحاج عماد مغنية والسيد مصطفى بدر الدين، سيذكرهم التاريخ رغم كلّ حملات التشويه والشيطنة التي تتعرّض لها المقاومة، إلى جانب هوشي منه وفنغوين جياب وتشي غيفارا وماوتسي تونغ وسواهم من قادة حروب التحرير والمقاومة.