يوم المقاومة والتحرير… دلالات وعبر
العميد د. أمين محمد حطيط
في الذكرى السادسة عشرة لتحرير الجنوب وطرد العدو «الإسرائيلي» من معظم الأرض اللبنانية هناك وعلى ضوء ما تشهده المنطقة من عدوان كوني عليها تقوده الولايات المتحدة وينخرط فيه بالتبعية أو التحالف أو الارتهان والارتزاق قوى إقليمية ودولية فيها العربي والإسلامي وغير ذلك. في هذه الذكرى وعلى ضوء الصمود الأسطوري الذي يسجله محور المقاومة في الدفاع عن الأرض والعرض والكرامة والسيادة، والدفاع عن المنجزات والمكتسبات نتوقف عند مسار المواجهة وما تحقق فيها وما ينتظر هذا المحور من مهام وما يتوقع من معسكر العدوان من سلوكيات مستقبلية في إطار هذه الحرب الكونية التي تُشن على سورية ومحور المقاومة والمنطقة ونسجل ما يلي:
1 ـ إنّ انتصار لبنان والمقاومة في معركة التحرير وفي الظرف الذي تمّ فيه كان انتصاراً صنعته الإرادة المقاومة في ظرف تخلّى فيه العالم عن لبنان وأناط أمره بإسرائيل وسكت عن احتلالها له ولم يحرك ساكناً تجاه الرفض الإسرائيلي لتطبيق القرار 425، وبالتالي إنّ مَن حرّر الجنوب هو المقاوم الذي بدا وحيداً وغريباً في وطنه تتنكر له شرائح سياسية واسعة ولا تؤيده من الشعب إلا الأقلية الملتزمة، لكنه عمل وأصرّ على السير في طريق من الألغام والأشواك، فثبّت وجوده وانتزع الاعتراف بهذا الوجود ثم ثبّت فعاليته في الميدان ثم فرض نفسه طرفاً فاعلاً وأساسياً في المعادلة التي فرض فيها إرادته على العدو وحملته على الاندحار من لبنان بعد أن استطاعت هذه المقاومة أن تحشد تأييداً رسمياً قيّض لها عن قناعة أو مجاملة أو مسايرة من قوى سياسية رسمية أو غير رسمية فضلاً عن توسّع دائرة التأييد الشعبي لها، الذي وللأسف لم يصل إلى درجة الإجماع عليها.
2 ـ إنّ انتصار المقاومة في لبنان لم يكن انتصاراً تتيحه الظروف الدولية الموضوعية، حيث إن العالم كان قد انقاد بمعظمه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتشار القوى الأطلسية في الخليج، انقاد لأميركا ولم يبقَ في الميدان مَن يقول لا لمشروعها الاستعماري إلا ثلة من الرجال المقاومين في لبنان تحتضنهم منظومة إقليمية تطوّرت، فشكلت محور المقاومة من إيران شرقاً إلى شاطئ المتوسط الشرقي غرباً شاملاً سورية وبعض لبنان وبعض فلسطين. وبالتالي كان الانتصار علامة فارقة في مسار الحراك الدولي لا بل يشكل بالنسبة للغرب وأميركا وإسرائيل علامة ناشزة في مسار مغاير انصاع كلّ العالم وسلم لأميركا بالقيادة لكن وحدها المقاومة رفضت الانصياع وقاتلت وحرّرت.
3 ـ فرض الانتصار اللبناني المقاوم على «إسرائيل» تحدّياً كبيراً من طبيعة التحديات الوجودية، ولذلك رأيناها تستدعي نخبها مباشرة إلى هرتزيليا لعقد مؤتمر وجودي انقلب ليكون مؤتمراً سنوياً دورياً للبحث عن سبل حماية «إسرائيل» وتثبيت وجودها ثم توسيع فضائها الاستراتيجي بالتغلب على هزيمتها في لبنان والاستفادة من المتغيّرات الدولية إقليمياً وعالمياً.
4 ـ فضحت المرحلة التي أعقبت الانتصار مرة أخرى دور الأمم المتحدة في اغتصاب حقوق الشعوب وتقديمها لمعسكر الاستعمار والعدوان، حيث جاء وفدها إلى لبنان بخرائط مزورة تظهر الحدود اللبنانية في غير مواقعها، خرائط كان من شأنها لو قبلها لبنان أن تضيع مساحات شاسعة من أرضه وتعطيها زوراً وبهتاناً إلى إسرائيل. لكن الموقف اللبناني الصلب الذي مثله العماد اميل لحود رئيس الجمهورية اللبنانية ابان التحرير، والذي عملت معه بصفتي رئيساً للجنة العسكرية اللبنانية المنوط بها التحقق الميداني من اكتمال الانسحاب وتطهير الأرض وفقاً لخط الحدود اللبنانية، هذه الصلابة مكّنتنا من استرجاع 17756000 م2 من الأرض اللبنانية مع التمسك بأرض أصرت الأمم المتحدة على ابتداع الذرائع الواهية لإبقاء الاحتلال فيها خاصة في مزارع شبعا اللبنانية ونقاط التحفظ الثلاث في رميش والعديسة والمطلة.
5 ـ أكدت أحداث ما بعد الانسحاب أنّ صاحب الحق مهما كانت قوته المادية محدودة يستطيع أن يقف ويطالب بحقه مهما كان المغتصب أو مساعد المغتصب عاتياً في قوته ومدجّجاً بالسلاح وبمصادر الضغط الأخرى. أقول هذا وأنا أتذكر تلك المحادثة الشهيرة التي جرت بيني وبيني وزيرة الخارجية الأميركية مادلين اولبرايت التي أرادت أن تنتزع منا اعترافاً بأنّ القرار 425 قد نفذ رغم أنّ «إسرائيل» كانت لا تزال في مواقع تحتلها داخل الأراضي اللبنانية. ولما رفضت طلبها تحوّلت إلى العماد لحود لتضغط عليه فلم تجد عنده إلا القوة الوطنية والرفض الأكيد والعنفوان العسكري السياسي ما فرض عليها العودة إلى الميدان والموافقة على عملية استكمال تطهيره.
6 ـ أنّ ما يجري اليوم من حرب كونية تقودها أميركا و«إسرائيل» هي عمل عقابي انتقامي للهزيمة التي تلقاها معسكر الاستعمار العدوان والتي كان ميدانها الأول في جنوب لبنان 2000 والتي أكد عليها في الجنوب اللبناني في العام 2006. وليس لما يحدث في سورية شأن أو علاقة بحرية أو ديمقراطية أو إصلاح سياسي، بل إنه هجوم عدواني غربي استعماري ضدّ الحلقة الوسطى من محور المقاومة المحور الذي أفسد على اميركا خطتها لوضع اليد على الشرق الأوسط ومنها على العالم وإرساء نظام عالمي أحادي القطبية. وعلى هذا الأساس انقلبت المواجهة اليوم في سورية إلى مواجهة ذات هدفين: الأول حماية المكتسبات التي تحققت ووفاء لدماء الشهداء والتضحيات التي بذلت، والثاني وهو الأصل ويعني الاستمرار في الدفاع عن الذات والوجود السيادي الاستقلالي.
7 ـ أنّ ما تتعرّض المقاومة وتحديداً حزب الله في لبنان من ملاحقة وحصار وتضييق يعود في جذوره إلى يوم التحرير في العام 2000 ثم إلى يوم إفشال خطة الانتقام في العام 2006. فالمقاومة هذه تراها أميركا العامل الذي أفشل خططها الاستعمارية في المنطقة فارتدّت عليها بمثل هذه التدابير الانتقامية العقابية التي لا يجيزها قانون ولا تتماشى في شيء مع ما يقول به الغرب من حرية وديمقراطية وحق الشعوب في الدفاع عن نفسها وحريتها وحقوقها.
على هذا نقول في يوم المقاومة والتحرير أنّ هذا اليوم يثير في النفس اعتزازاً واغتباطاً، كما أنه يثير المسؤولية أيضاً فليس مسموحاً بعد كلّ ما بذل وبعد كلّ ما تحقق، التراجع، وهنا نسجّل لمحور المقاومة بأركانه الأساسية الثلاثة إيران وسورية وحزب الله صلابتهم وإرادتهم وقوتهم في المواجهة كما نسجل لمجتمع المقاومة لدى هذه المكوّنات، خاصة في لبنان والذي تجلى سلوكه مؤخراً في الانتخابات البلدية تمسكه بمقاومته، رغم كلّ التضييق والحصار، وهذا ما يقودنا إلى القول إنّ مقاومة ومحوراً هذا شأنه، وإنّ مجتمعاً مقاوماً هذه طبيعته وسلوكه لا يستحق إلا الانتصار، ولذلك قال السيد نصرالله إنه زمن الانتصارات. وإنّ موعدنا مع الانتصار النهائي بات قريباً وأكيداً.
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية