أردوغان سكت دهراً ونطق كفراً… رسائل بلا جدوى!
سومر صالح
على مضض، وبعد سبعة أشهر تقريباً وما تخللها من تحوّلات في المشهد الإقليمي والدولي، وبخبثه المعهود اعتذر الرئيس التركي رجب طيب اردوغان من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن حادثة «مقتل الطيار الروسي»، وأبدى «أسفه» على إسقاط المقاتلة الروسية، أيّ أنّه حتى الآن لم يعتذر عن حادثة الإسقاط بحدّ ذاتها باعتبارها شرطاً لازماً غير كافٍ لإعادة تطبيع العلاقة بين موسكو وأنقرة! وهذا الكلام يحمل نتيجة مباشرة أنّ أردوغان باعتذاره لم يقصد إرسال رسائل أو إشارات واضحة لموسكو حول إمكانية تعديل سلوكه في الأزمة السورية بشكل حادّ أو مؤثر في سير الأحداث السورية، بل أراد بذلك تعميق ضبابية سلوك نظامه السياسي في الأسابيع التي تلت إقالة رئيس وزرائه الأسبق داوود اوغلو واستبداله ببن علي يلدريم الذي سارع وأطلق تصريحات لافتة وإيجابية اتجاه موسكو، وتصريحات تدعو للتفاؤل بشأن السياسية التركية المحتملة تجاه سورية والعراق. وفي ذات السياق تقوم مخابراته التركية بتزويد ميليشيا «الفتح الإرهابية» بمعدات عسكرية حديثة ونوعية كالدبابات والصواريخ المضادّة للطائرات المحمولة على الكتف، وإرسال قوات خاصة إلى شمال حلب… إذاً ما الرسائل التي أراد اردوغان إرسالها من خطوة الاعتذار «الجزئي» تلك، ولمن الرسائل موجهة أصلاً، وما دلالات التوقيت اللافت بعد ساعات فقط من إعلان «تطبيع» العلاقات بين «إسرائيل» وتركيا، والتي عنوانها الصريح التنسيق الأمني بشأن سورية في مواجهة إيران أولاً وروسيا بدرجة أقلّ في موضوع الطاقة، وإمكانية ضخ الغاز «الإسرائيلي» إلى أوروبا عبر تركيا وما يحمله من طابع التحدّي وبدقة أكبر المشاكسة التركية لروسيا، هنا نستطيع القول إنّ أردوغان حاول استثمار اعتذار «إسرائيل» لتركيا في واقعة سفينة مرمرة 2010 ليقول إنّ مبدأ الاعتذار بحدّ ذاته هو أمرٌ طبيعي يحدث بين الدول نتيجة لأخطاء، وبالتالي يمكن اعتبار اللحظة الزمنية لإعلان التطبيع مع «إسرائيل» هي أفضل توقيت لتقديم اعتذار لا بدّ ولا مفرّ منه لقيادة روسيا، على الأقلّ ليخرج من مأزقه الشخصي الذي وضع نفسه فيه لرفضه المتكرّر الاعتذار، دون أن نغفل الدور الحاسم لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي أفضى إلى تسريع إجراءات التطبيع مع «إسرائيل» من جهة وتقديم الاعتذار لروسيا من جهة أخرى، ولكن قبل الدخول في تفاصيل ما جرى، نضيف عاملاً مهماً إلى سلسلة الأحداث الدراماتيكية تلك، لتصبح الصورة أكثر شموليةً ووضوحاً، وهو استشعار تركيا خطر المشروع الأميركي الذي يحث الخطى لإحداث دويلة كردية في العراق، ربما تمتدّ إلى سورية لاحقاً، عبر دعم واشنطن اللامحدود لمبدأ الإدارات الذاتية الكردية في سورية، وتجاوز الخط الأحمر التركي بعبور الكرد غرب نهر الفرات وقرب ضمّ منبج إلى ما يسمّى «روج افا» السورية، وبإعادة ترتيب الأحداث يصبح لدينا ثلاثة أحداث غير مترابطة شكلاً ولكن متداخلة في الأهمية بالنسبة لنظام أردوغان…
الحدث الأول مشروع أميركي يتجاهل الخطوط الحمر التركية، والثاني خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وما يحمله من محاولة أميركية لضمان تماسك حلف شمالي الأطلسي وقوته في مواجهة روسيا، والحدث الثالث إجراءات تطبيع العلاقات مع «إسرائيل». وكما هو معلوم كلّ خطوة تخطوها تركيا باتجاه روسيا تعني ابتعاداً موازياً بخطوة عن الاتحاد الأوروبي وكسباً روسياً مضافاً في مواجهة الخصم الأوروبي، وهو ما لا يريده الاتحاد الأوروبي في هذه اللحظات المصيرية من عمره.
مع هذه السلسلة المترابطة يمكن القول إنّ أردوغان بخطوته باتجاه موسكو أراد إرسال رسائل مزدوجة للاتحاد الأوروبي من جهة وللولايات المتحدة من جهة أخرى، فالرسائل الموجهة للولايات المتحدة تفضي إلى القول بأنّ أيّ تمادٍ أميركي في موضوع الكرد في المنطقة على حساب المصالح التركية، تعني خطوات إضافية باتجاه موسكو ونأياً تركياً بالنفس عن صراع الناتو السياسيّ الطابع مع روسيا، دون أن تصل الأمور إلى مرحلة الصدام، أمّا الرسائل الموجهة إلى الاتحاد الأوربي فهي ثنائية، إذا ما أراد الاتحاد الأوروبي التخلص من عقدة الطاقة الروسية فالخيار التركي- الإسرائيلي حاضرٌ بقوة وبجدوى اقتصادية، ولكن هذا الأمر يتطلب تنازلات أوروبية بشأن عدّة ملفات أولها الكرد والثاني إجراءات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي المتعثرة، والضغط على الولايات المتحدة لأخذ المصالح التركية بجدية وواقعية، وإلّا فالاقتراب خطوات باتجاه روسيا، وربما لاحقاً الوصول إلى تطبيع اقتصادي – أمني معها، والإمساك جزئياً بملف الطاقة الأوروبي عبر عقدة الغاز الجديدة الناتجة من تفعيل خط السيل التركي مع روسيا، وربما دمجه مع خط غاز «إسرائيلي» جديد بنسب معينة…
طبعاً، تبقى كلّ هذه السيناريوات محتملة، في إطار الاحتمال النظري في حسابات نظام أردوغان، لأنّ رسائل الابتزاز تلك للولايات المتحدة تقابلها حسابات نظرية أيضاً لإدارة الرئيس أوباما المأزوم زمنياً والتي أرسلت رسالة قوية عبر المتحدثة باسم خارجيتها إليزابيت تيرودو التي تجاهلت حديث الرئيس التركي العلني عن الاعتذار، وقالت: «لم نر سوى بيان المتحدث الرسمي باسم الكرملين» وكأنها أرادت إرسال رسالة مفادها أن لا قيمة للخطوة التركية على مستوى سياسة «الدولة التركية» إلا بموافقة واشنطن، فالحسابات الأميركية تنطلق من أن لا إمكانية حقيقية لحدوث تطبيع كامل بين روسيا ونظام أردوغان لجملة من الأسباب أهمّها…
أولاً: عامل الثقة المفقود بالمطلق بين الطرفين نظراً لتمادي أردوغان سياسياً وعسكرياً مع روسيا في جزيرة القرم وسورية والحرب الأرمنية الأذربيجانية.
ثانياً: المؤسسة العسكرية التركية ترتبط ارتباطاً عضوياً بالناتو، وهي لن تسمح لأيّ إدارة سياسية بالخروج من هذا النهج أو التلاعب به باعتباره خطاً أحمر لديها.
ثالثاً: لا مستقبل لتركيا في قيادة «العالم الإسلامي» إلّا إنْ وافقت الولايات المتحدة على ذلك، لأنّ الخيار السعودي يبقى موجوداً في الحسابات الأميركية، وهو أمرٌ طالما أقلق نظام أردوغان الاسلاموي.
رابعاً: لا تمتلك الإدارة الروسية وسائل حماية أردوغان من جرائمه وتجاوزاته مع تنظيم «داعش»، بالقدر الذي تمتلكه الإدارة الأميركية وأوروبا من خلفها، وهي ورقة رابحة بالنسبة لأوباما لامتصاص «الرعونة الأردوغانية».
مع هذه الرؤية الأميركية تصبح رسائل أردوغان بلا جدوى وفعالية، ولن تؤثر على القرار الأميركي إلا بالقدر الذي تقدّره الإدارة الأميركية لمنع تدهور استقرار العلاقة مع تركيا والدخول في حسابات استبدال شخصية أردوغان في الحكم وما يرافق ذلك من صعوبات وعواقب محتملة، وربما تنقلب النتائج على الولايات المتحدة.
ومع كلّ ما سبق تدرك موسكو أنّ خطوة أنقرة تلك ملغومة ومجتزأة، لذلك بقي الردّ الروسي بارداً وحذراً ويقظاً باعتبار الاعتذار «خطوة أولى في مسيرة إعادة العلاقات» – الكلام هنا لمجلس الاتحاد الروسي – لإدراك القيادة الروسية حقيقة النوايا الأردوغانية، التي أرادت إيصال رسائل الابتزاز إلى حليفها الأكبر الولايات المتحدة وليس معالجة الخلل في العلاقة بين الجانبين، وفي المحصلة أخطأ أردوغان بحساباته مرة ثانية باعتذاره «الجزئي» لروسيا، بعد خطيئته بواقعة إسقاط المقاتلة سو- 24 في السماء السورية، لأنّ اعتذاره الجزئي هذا لن يأتي بنتائج إيجابية على مستقبله السياسي ولا على مستقبل المصالح التركية في المنطقة، بل على العكس، مجرد محاولة ابتزاز حلفائه ستعجّل في إنهاء مسيرته السياسية داخلياً، ورفع الغطاء الأميركي عن أسلوبه الشمولي في الحكم، الأمر الذي سيعرقل طموحاته في تغيير نظام الحكم في تركيا إلى نظام رئاسي، وهو أمر لن يتمّ إلّا إنْ وافقت واشنطن ضمناً، ومن جهة أخرى مجرد الاعتذار ولو جزئياً أعطى روسيا الحق في إجراءات الردّ على أيّ تحرّش تركيّ مستقبلاً بقواتها في شرق المتوسط، وبالطريقة التي تراها مناسبة، وفي حدود القوة التي ترتئيها، هذا الأمر سيعقد الحسابات التركية على الأرض في ظلّ تقارير روسية ودولية عن حضور تركي مباشر في شمال مدينة حلب وتقارير عن تزويد المجاميع الإرهابية بصواريخ مضادّة للطائرات، الأمر الذي سيدفع بأردوغان إلى إعادة حساباته بشكلٍ معمّق في مجال دعم تلك المجاميع الإرهابية في سورية.
ختاماً… الردّ الروسي البارد والحذر من الخطوة التركية من جهة، والحسابات الأميركية لحقيقة الوضع الاردوغاني المأزوم، وتطورات المعارك في أرياف مدينة حلب والفاعلية الميدانية المرتقبة لحزب الله في حلب، كفيلة بتحويل الإجراءات التركية الأخيرة إلى ما يشبه الزوبعة في فنجان سرعان ما تفقد حركتها وفعاليتها على المدى القريب، ولكن على المدى الطويل ربما ستتحوّل إلى عاصفة عاتية قد تقتلع أردوغان من جذور الحكم في تركيا.