الانتقال التركي إلى الخطة «ب» وإحياء نظريات الماضي…
سعدالله الخليل
فجأة دون أيّة مقدّمات تتشابك الظروف وتتسارع الأحداث وتغلق الأبواب بوجه سلطان القرن الحادي والعشرين، وتسير رياح التطورات في المنطقة بما لا تشتهي سفن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، للمضيّ في معركة عناد وعنتريات صراخ بلا أيّ طائل أو فائدة مرجوة ليتحوّل من سلطان يسعى لتوسيع نفوذه إلى باحث عن طوق نجاة من الغرق.
قرأ أردوغان مسار الأحداث الإقليمية والعالمية بتمعّن وأدرك أنّ القطار بدأ يفوته، بدأ من تنامي الدعم الأميركي للأكراد في سورية ما جعلهم حليفاً موثوق من الجانب الأميركي للتمدّد في العمق السوري وبالتالي في المنطقة، إلى القناعة التامة بصعوبة إقناع واشنطن وضع فيتو على الحرب السورية الروسية ضدّ تنظيم جبهة النصرة حصان طروادة التركي في الأزمة السورية، فالتقارب الأميركي الإيراني من البوابة العراقية سواء بإعلان وزير خارجيتها جون كيري عن الدور الإيجابي الذي تلعبه في العراق بمواجهة تنظيم «داعش»، واعترافه بمصالح واشنطن المشتركة مع طهران، أو بغض النظر الأميركي عن الجهود الإيرانية الواضحة لملء الفراغ الذي أوجدته سنوات احتلال العراق والتي قضت على بنية الدولة العراقية، وهو ما يزيد من العزلة التركية في المنطقة ويحوّلها من رأس حربة أميركية إلى مجرد حليف محروق الأوراق، وهو ما يرسخ التباعد الأميركي التركي الذي ظهرت تجلياته خلال زيارة أردوغان إلى واشنطن للمشاركة في قمة الأمن النووي والتي أبرزت حجم الخلافات الأميركية – التركية.
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وإصرار بروكسل على تسريع إجراءات لندن للخروج من منظومة بروكسل، ودعوات الانفصال التي رافقت الاستفتاء البريطاني وما كشفته من هشاشة في البنية الأوروبية، كان بمثابة المسمار الأخير في نعش الآمال التركية في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أو القدرة على بناء علاقات متينة مع تلك المنظومة تحمي أنقرة، وتفتح لها أبواب سياسية واقتصادية تنقذ أردوغان وتحميه من تبعات تورّطه في الملفات السورية والعراقية والأوكرانية.
داخلياً فرض الواقع الأمني التركي نفسه على الساحة السياسية مع ارتفاع مستويات الاستهداف لمراكز حساسة لا يمكن التغاضي عنها، والذي برزت تجلياته في تفجيرات مطار أتاتورك أبرز المطارات التركية، وأكثرها حيوية وحساسية سياسية وأمنية، خاصة أنّ جنسيات منفذي التفجيرات من جنسيات روسية وأوزبكستانية وقيرغيزية تفتح الأبواب واسعاً لتأويلات عدة سواء بدت العملية كإحدى مخرجات التدخل التركي في سورية، وما يرافقه من كشف مقصود للحدود التركية، أو تصفية حسابات لجهات خارجية مع السلطات التركية، ففي كلا الحالتين ما يدفع تركيا لإعادة الحسابات والبحث عن سبل أكثر نجاعة لخروج أردوغان من مأزق عدة، خاصة بعد فشل مشروع تحميل رئيس حكومته الأسبق وصديقه القديم أحمد داوود أوغلو مسؤولية فشل سياسات العدالة والتنمية التي رسمها أردوغان منذ عقود.
جملة المعطيات السابقة وغيرها من الأحداث دفعت «سلطان» القرن الحادي والعشرين للسير في الخطة البديلة، بدءاً من الإعلان عن تطبيع العلاقات التركية الإسرائيلية وإعادة افتتاح السفارات مقابل 21 مليون دولار كتعويضات لضحايا سفينة مافي مرمرة التركية، التي حاولت إدخال المساعدات إلى قطاع غزة عام 2010 وتعرّضت لهجوم الكوماندوس «الإسرائيلي»، وبالرغم من جملة التنديد التي رافقت الإعلان عن الاتفاق خاصة من ذوي الضحايا، فقد اعتبرت حركة حماس الاتفاق بالتاريخي، مقابل تمرير كلّ معدات ومساعدات إنسانية إلى القطاع عبر ميناء أشدود ومشاريع تنموية ملحة كمحطتي توليد كهرباء ومحطة تحلية مياه ومستشفى تدفع حماس ثمنها التعهّد بعدم العمل ضد العدو انطلاقاً من تركيا، والغريب في توقيت الاتفاق تزامنه مع مؤتمر لإحياء عملية التطبيع بين السلطة الفلسطينية والكيان الاسرائيلي، والذي أعلن عبره وزير الخارجية السعودي عادل الجبير التزام مملكته بنزع سلاح حركتي «حماس» و»الجهاد الإسلامي» والفصائل الفلسطينية الأخرى، وبالتالي فإن التزامن في التوقيت والرؤية والأهداف يخرج القضية من سياق المصادفة، ويضعها في سياق المشروع المتكامل لتصفية القضية الفلسطينية تتولى بموجبه تركيا ضمان موافقة حماس والسعودية مباركة السلطة وحركة فتح للمشاريع الإسرائيلية.
استكمالاً لمشروع أردوغان بالعودة لنظرية صفر العداوات التي حولها إلى صفر أصدقاء بجدارة اعتذر عن إسقاط الطائرة الروسية ورضخ للشروط الروسية، خاصة أنّ الخطوة أتت في زمن لم يعد الروسي يطالب أنقرة بالاعتذار، ويكتفي بالتأكيد على أنّ أردوغان يعلم ما هو المطلوب لعودة العلاقات إلى سابق عهدها، وبتنفيذ الشروط يقدّم الرئيس التركي أوراق اعتماد جديدة في موسكو متناسياً خطاباته الندية والنارية واتهاماته روسيا بالتدخل بالشأن التركي، وحدها قناة «الجزيرة» صوت تنظيم «الإخوان المسلمين» في العالم صوّرت خطوة أردوغان بـ»البطولية» واعتبرتها تمسكاً تركياً بالمواقف السابقة دون أن تقدّم أيّة أدلة مقنعة.
الواضح أنّ أردوغان يسعى لإعادة عقارب الزمن إلى ما قبل التورّط في الأزمات العربية عموماً والسورية بشكل خاص، وهو بذلك يقدم على خطوة انتحارية بالنظر إلى السقوط المدوي لأوراقه على أكثر من جبهة، بما يجعل من المستحيل بمكان إعادة إحياء النظريات التركية، وأهمّها نظرية صفر عداوات التي راوغ أردوغان بشعاراتها لعقود، ليجعل من الثابت أنّ أردوغان عدو أيّ مشروع يحمل الخير للمنطقة.