استدارة أردوغان نحو روسيا… الضرورة والمناورة
محمد شريف الجيوسي
اغتنم الرئيس التركي الإخواني أردوغان ورئيس وزرائه بن علي يلدرم، العيد الوطني لروسيا، لتهنئة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء ميدفيديف، وأعربا في برقيتيهما عن أملهما باستعادة العلاقات مع روسيا.
وتزامنت التهنئة مع توقيع تركيا اتفاقيات أمنية مع الكيان الصهيوني يوم 28 حزيران 2016 المنصرم في العاصمة الإيطالية روما، وهي اتفاقيات تستهدف سورية والعراق وإيران.
ولا شك في أن الاستدارة التركية نحو روسيا تختلف حدّ التناقض في الشكل والجوهر والنتائج عن ظاهر استعادة العلاقات التركية مع «إسرائيل» التي لم تنقطع منذ اعتراف تركيا بالكيان الصهيوني سنة 1949، والحديث التركي الرسمي عن انقطاع في العلاقات يُقصَد به استثمار استشهاد 9 أتراك على متن السفينة مرمرة وربطه بتمثيلية نصف الدقيقة المتفق عليها مع الولايات المتحدة، التي أتقن فيها أردوغان دوره، وما رافق ذلك، الكثير من الضجيج والبهلوانيات السياسية والاستثمار الإخواني الإسلاموي.
لن نفصّل في حقيقة تمثيلية نصف الدقيقة، التي صمّمت لسحب الرصيد السياسي الشعبي الذي حصلت عليه المقاومة اللبنانية، المدعومة من إيران وسورية، كمقدمة لحرف الصراع عن وجهته من صراع وجودي عربي صهيوني، إلى صراع سني شيعي وعربي فارسي ليس مكانه ولا زمانه ولا مبرراتٍ حقيقية له، وليس هو صراع وجودي وانما هو خلاف حدود ومصالح وتفاصيل في أداء العقيدة، لا في جوهرها، ولها حلول..
إنّ استعادة العلاقات العلنية التركية الإسرائيلية في هذا الظرف، يحمل أبعاداً خطيرة، رغم أن العلاقات السرية لم تنقطع أبداً بينهما، في حين تتمادى إسرائيل في انتهاك المقدسات التي يفترض بحسب حكام تركيا الإخوانيين أنهم على قدر من الحرص عليها، وعلى إخوانييهم في حماس بغزة، حيث جاء الاتفاق صادماً لحماس، يعبر عنه في الغرف المغلقة بمرارة.
ويُعتبر الاتفاق التركي الإسرائيلي بمثابة التزام معلن بعدم علاقة أنقرة بالقضية الفلسطينية، على نقيض مزاعمها في سنوات مضت، حيث تبني تل أبيب جدار عزل جديداً هذه المرة مع الأردن، بكل ارتياح، وتواصل الاستيطان وتجريف الأراضي الزراعية، والعمل على تغيير البنية الديمغرافية في القدس الشرقية بخاصة وغيرها، والتضييق على عرب الداخل 1948.. واعتقال وقتل الأطفال والنساء والمسنين والرجال، وشرعنة يهودية الكيان الصهيوني، ورفضها أي حل سياسي يُفضي إلى إقامة دولة فلسطينية حتى على ما تبقى من أرض فلسطين.
ومن جهة أخرى، لم تعُد تركيا معنية باجتراح تمثيلية جديدة، كتمثيلية نصف الدقيقة تلك، لاعتبارات ثلاثة، أولها أن مناكفة إيران لم تعُد ذات جدوى بعد الاتفاق النووي، وباعتبار أن تلك التمثيلية أدّت غايتها بحرف بوصلة الصراع، وباعتبار أن تركيا في هذه المرة معنية بتقليص حجم الخصومات والعداوات التي أغرقت نفسها فيها.
مما سبق نجد أن حكام تركيا الإخوانيين دخلوا مرحلة أكثر تقدماً في علاقاتهم مع إسرائيل واعتمادهم ممارسة العلنية مجدداً معها، ويحتمل التوجّه إلى تنفيذ مشاريع تفكيك وتركيب جديدة على صعيد الإقليم، تحدّثت عنها بعض التقارير، وعن دورها فيها بالاشتراك.
ولا شك في أن تنفيذ مخططات كهذه تستوجب تحييد أطراف دولية فاعلة في المنطقة، كـ روسيا الاتحادية، فضلاً عن المصالح الاقتصادية والتجارية والسياحية والاستثمارية معها، والتي تميل غالباً لصالح تركيا لدى روسيا، ولا ينبغي تجاهل المصالح الأمنية أيضاً، فروسيا قادرة إن أرادت فتح أبواب جهنم على تركيا.
وحيث إن الاتحاد الأوروبي آيل للسقوط أو التهميش، فضلاً عن كونه ليس شريكاً حقيقياً لتركيا ولا ينظر إليها بأدنى احترام، رغم مطواعيتها المفرطة مع الغرب، وحيث إن علاقات تركيا مع جاراتها الجنوبيات في أسوأ حالاتها جراء حماقات ارتكبها الـ أردوغان، وهي ليست مع اليونان في أحسن حالاتها فضلاً عن أن اليونان هي الأخرى تعاني، ولا يبدو من أفق لحل معضلة أوكرانيا بما يُرضي أنقرة.. كل ذلك تزامن ويتزامن مع تردي الأوضاع الأمنية والاقتصادية التركية، وتكشف مقدمات ازمات داخل حزب اردوغان الحاكم.
حيث ذلك كله، لا بد من استدارة تركية حقيقية نحو روسيا إن كانت أدمغة حكامها تعمل جيداً .. وقد تكون العلاقات مع روسيا مدخلاً للخروج من الورطات التي دخلتها تركيا باختيارها في المنطقة، وتآمرها على جاراتها وسوء تقديرها..
إن قبول روسيا المبدئي بإعادة العلاقات مع تركيا، لن يكون قبولاً مجانياً، فقد أعلنت موسكو بوضوح أن هناك ما ينبغي على تركيا أن تفعله.. فقبل أيام من برقيتي التهنئة التركيتين، بثت موسكو صوراً التقطتها من الفضاء لأسلحة متطورة أدخلتها تركيا إلى سورية، وبالتأكيد فإن روسيا ليست تركيا لتتخلى عن حليفتها سورية، كما تخلّت أنقرة عن إخوانيي غزة وعن مقدسات الضفة الفلسطينية، لأجل مشروع كيان إسلامي وهمي يقوم في أجزاء من العراق وبلاد الشام ومناطق أخرى يهيمن عليه عثمانيون جدد، ما يبرر قيام إسرائيل يهودية صهيونية كبرى في المنطقة.
وقبول روسيا السريع نسبياً لإعادة العلاقات ليس قبولاً ساذجاً، بل إن حماقة النظام التركي الإخواني بإسقاط الطائرة وقتل الطيار، قدّم لموسكو مبرراً كافياً لهز العصا امام عيني أردوغان الذي أصيب بالحول السياسي، فأخذ بالتخبط بدلاً من معالجة الحماقة، فجرّ على بلاده أزمة سياسية واقتصادية.
تعلم روسيا جيداً أن معركتها المتاحة في سورية، هي معركتها بقدر ما هي معركة أطراف محور المقاومة، وضمنه سورية ذاتها، وليس أقل، كما هي حرب صياغة معادلات نظام عالمي جديد من الأرض السورية، يحجّم قوى الطغيان والحروب والنهب ومؤسسات راس المال العالمية.
وتعلم روسيا بقيادة بوتين أن أية حسابات خاطئة، ستكون كارثية، ولن تخدعها بهلوانيات النظام السياسي التركي، الذي لم يستطع إخفاء سوأة انغماسه في مستنقع الإرهاب الظلامي، ومتابعة علاقاته المتميزة مع العدو الإسرائيلي، الذي أثخن جراح الشعب الفلسطيني.
استدارة أردوغان نحو روسيا استدارة الضرورة والمناورة والتحييد وكسب الوقت والتعمية إن استطاع . وهي استدارة لن تنطلي على روسيا وقيادتها متمثلة في بوتين ومدفيديف، أما علاقات تركيا بإسرائيل فهي علاقات الاستمرار والاستراتيجيا المبينة على العداء المتماثل للجوار، وتقاسم المنطقة دينياً بالاشتراك والاتفاق.
m.sh.jayousi hotmail.co.uk