الأطلسي يرسم حدوده قبل التسويات أم يستعدّ للمواجهة؟
ناصر قنديل
– افتتح مؤتمر حلف الأطلسي في وارسو بالرمزية التي أرادها أصحابه كعاصمة سابقة للحلف الذي كانت تقوده موسكو قبل ربع قرن، وبالتوقيت الذي جاء عقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والعاصفة التي تحيط بمستقبل الاتحاد، نقاشاً حول الوظيفة التي يحتلها المؤتمر في خارطة الطريق التي يريدها أركان الحلف، وخصوصاً قيادته الأميركية، التي بات ثابتاً أنها المرجع بلا منازع ولا شريك في قرارات الحلف وحروبه، فهل صحيح ما قاله الكثيرون عن معنى تصعيدي يؤشر إليه ما صدر عن المؤتمر من تقرّب من حدود روسيا، من كييف إلى البلطيق؟
– الواضح أولاً أنّ المؤتمر يُعيد تقديم الحلف على حساب الدور الذي اضطلع به الاتحاد الأوروبي خلال ربع قرن من سقوط جدار برلين، وهو يردّ الاعتبار للحلف مع بريطانيا على حساب ألمانيا في صناعة النفوذ الغربي والأميركي، خصوصاً في مواجهة خطر تمدّد روسي يعرف الأميركيون، أنّ انهيار جاذبية الاتحاد مع صعود الدور الروسي على الصعيد الدولي، تعنيان ذروة معاكسة لما حدث قبل ربع قرن من انسحاب من المظلة الروسية واختيار الالتحاق بالاتحاد الأوروبي بدلاً من الاتحاد الروسي الذي ضمّ عدداً من الدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي، ومثلما ذهبت رومانيا وبلغاريا وسواهما غرباً قد تعودان شرقاً فيقول المؤتمر، تستطيع ألا تكون أوروبياً وتبقى أطلسياً، وسنحميك وننشر قواتنا للدفاع عن نظامك السياسي، طالما أنّ الاتحاد الأوروبي دخل الشيخوخة المبكرة، ولو كان الأمر هجومياً لكانت كلمة السرّ هي القرم، فيكفي أن يقول المؤتمر، إنّ السلام والاستقرار لن يعودا بين روسيا وحلف الأطلسي إلا عندما تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل حرب أوكرانيا وتكون شبه جزيرة القرم أوكرانية ومن ضمن أيّ تسوية تشمل أوكرانيا، والحلف سيدعم كلّ مسعى لحكومة كييف لاستعادة سيادتها على شبه الجزيرة، متنمياً أن تتراجع موسكو منعاً لأيّ تصادم، فهل حدث هذا؟ أم ابتلع الحلف الهزيمة وقال ندعو موسكو لدعم تنفيذ اتفاقيات مينسك التي تكرّس ضمّ روسيا للقرم، وأضاف ضمناً، إلى هنا تمدّدت روسيا ونرسم حدود السيطرة، فما لنا سننشر قواتنا فيه، وهذا ما سنفعله بفائض القوة الذي نملكه ولم يعد مجدياً في قلب آسيا من أفغانستان إلى العراق وسورية، ونجد أنفسنا هناك مرغمين على الذهاب إلى التسويات، حيث لم يتحدّث البيان النهائي للحلف في الفقرة المخصصة لسورية عن إسقاط نظام ولا عن توصيفات مسيئة للدولة السورية وجيشها ورئيسها، واكتفى بدعوتهم للسير بحلّ سياسي ودعا جميع الفرقاء لوقف نار حقيقي.
– عندما ينشر الحلف قواته في دول تابعة له سبق وإنْ انضمّت إلى صفوفه قبل سنوات في قلب خطاب سياسي يضع سقوفاً عالية للتفاهم مع روسيا كاستعادة القرم لأوكرانيا، وتوصيف مرحلة انتقالية بدون الرئيس في سورية، وتمديد البقاء العسكري في أفغانستان، والتعهّد بالقيام بمقتضيات التحصّن بوجه الإرهاب محيلاً تهديده لتورّط خصومه بحروب أهلية تغذيه، كما كان خطاب هيلاري كلينتون عن سورية قبل سنتين، منطقي أن نستنتج أنّ الحلف ذاهب إلى التصعيد، أما عندما يؤكد الحلف على قرار الانسحاب من أفغانستان ويتعهّد بتدريب الشرطة والجيش ودعم الحكومة هناك، ويدعو لتفاهمات دولية وإقليمية للحرب على الإرهاب، ولا يعيد معزوفة نشر الدرع الصاروخية قرب حدود روسيا، ويتغاضى عن مصير القرم، ويتوجه بلغة مطلبية للرئيس السوري، تصير قرارات نشر القوات، ضمن إطار ترسيم حدود السيطرة قبل التسويات، ومحاولة استباق تحوّلات ينتجها مأزق الاتحاد الأوروبي بين صفوفه الشرقية القريبة من روسيا وسعياً لطمأنة نخبها الحاكمة المدعومة منه أنه لن يتخلّى عنها، وأنّ الناتو بديل جاهز للاتحاد الأوروبي، ورسالة ضمنية لروسيا أن تدحرج حجارة الدومينو الذي جرى قبل ربع قرن لن يتكرّر باتجاه معاكس الآن.
– الرسالة الأهمّ التي حملها المؤتمر هي في أوروبا أنّ بريطانيا أهمّ من ألمانيا بالنسبة لأميركا بعد الضربة التي أصابت الاتحاد الأوروبي، وأنّ كوريا الجنوبية أهمّ من اليابان على حدود الصين، وأنّ قواته المنتشرة في ألمانيا واليابان هي مجرد خطوط أمامية يتخذ قرار تحريكها في مكان لا تتواجد فيه حكومة برلين ولا حكومة طوكيو. وهذا يعني أنّ استبدال الأحلاف الاقتصادية بالحلف العسكري يفتح الباب للعكس، ولادة أحلاف اقتصادية تضمّ ألمانيا مع روسيا واليابان مع الصين.
– مؤتمر الناتو خطوة إلى الأمام في الحركة الأميركية لإخفاء خطوتين إلى الوراء، الأولى بداية تفكك الاتحاد الأوروبي بجاذبيته لشعوب أوروبا الشرقية، والثانية تمدّد روسيا بدءاً من القرم، حيث التنازل الأول عن جغرافيا الحلف أو نفوذه، وصعود روسيا كقوة دولية من بوابة حروب الشرق الأوسط وفي مقدّمتها حرب سورية، حيث حشد الحلف أساطيله وحيث كان انسحابه العسكري الأول.