هكذا أُنقذ أردوغان مرتين
روزانا رمّال
تعرّض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ عام 2015 حتى عام 2016 الى أقوى هزتين على نحو غير متوقع بالنسبة له أولاً، ولحزبه ثانياً ولحلفائه الدوليين ثالثاً. الأولى سياسية والثانية أمنية، لكنه في الحالتين نجا في لحظات لافتة وضعت الصدفة وأردوغان في الخندق نفسه او ربما العناية الالهية، كما يقول.
يجزم وزير الخارجية الأميركي جون كيري بشكل قاطع في حديث هاتفي مع نظيره التركي مولود جاويش أوغلو بأن لا علاقة لبلاده بمحاولة الانقلاب العسكري في تركيا، فيقدّم اوغلو موقف كيري للرأي العام التركي والدولي لاغياً أحد احتمالات «الأيدي الخفية وراء الانقلابات»، كما يبتغي لكن الاهمّ، «لماذا طرح هذا الاحتمال من أساسه وكيف يمكن تفسير السطوة الأميركية داخل تركيا وفهم قدرتها على التغيير وحجم سيطرتها من داخل القوى العسكرية؟».
تابع العالم بدهشة ما جرى بساعات في تركيا التي بدت دولة هلامية غير قادرة على التوازن بظلّ اجتياح عسكري للآليات وتحليق كثيف للطائرات العسكرية التي قادت انقلاباً مفاجئاً قلب الحسابات جميعها، في وقت كانت تركيا تتحدّث بلسان رئيس وزرائها بن علي يلدريم عن ضرورة إنهاء العداوات مع الجوار مثل مصر والعراق وسورية، وكأنها محاولة لاستدراك خطر ما بات يداهم صورة الحكم وسياستها الخارجية بعد خلاف كلف غالياً مع روسيا سياسياً واقتصادياً في غضون أشهر قليلة. بوادر التحسن التركي والتوجه نحو الجوار شمل بريبة «اسرائيل» التي بدورها توجّهت نحو حلّ الملفات العالقة مع تركيا وإعادة الأمور لوضعها ما قبل حادثة سفينة «مرمرة».
تقدّم الخبر التركي على كلّ الأخبار الدولية ولا يزال حتى الساعة أبرز ما يقلق المنطقة، فأيّ تدهور جديد يحمل أبعاداً سياسية كبرى، وبالعودة إلى المشهد المباغت بدا أردوغان لأول مرة مذهولاً ومتفاجئاً من وقع الصدمة والرفض الذي واجهته به وسائل الإعلام ومدارج المطارات ليعود فجأة من نافذة أخرى وبوابة أخرى ويطلع الصباح مستعيداً زمام الأمور.
أنقذ أردوغان بعناية إلهية، هكذا يقول «هو» عن الانقلاب الذي جرى والذي اعتبره فرصة لـ «تطهير البلاد من الخونة». لم تكن سهلة إعادة عقارب الساعة الى الوراء لحظة نزول العسكريين الى الشوارع، وتتحدّث الاستخبارات الاميركية «سي اي آي» عن انّ احد ابرز أسباب الانقلاب انّ ضباطاً في الجيش التركي لم يكونوا راضين عن الاسم الذي سيعلنه أردوغان لقيادة الجيش، ما دفع إلى تململ فانقلاب.
بالعودة لكلام كيري ونفيه التدخل الأميركي بشؤون تركيا ودعم الانقلاب، يحضر احتمال يكرّسه النفي أساساً المفترض ان لا يكون حاضراً بأيّ شكل من الأشكال، لكن الحضور الاميركي المتابع لما جرى في تلك الليلة هو نفسه الذي انقذ أردوغان مرتين: الاولى عند عجزه عن تشكيل حكومة منفرداً واذا به يضطر للانتخابات المبكرة، فيستعيد المبادرة للتفرّد بالحكومة. والثانية لحظة إنقاذه من الانقلاب منذ ايام!
وتفصيلاً، خسر حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا في حزيران 2015 الأغلبية المطلقة في البرلمان في ما يعتبر حينها ضربة قوية لطموح الرئيس رجب طيب أردوغان. ما عنى في ذلك الوقت استحالة أن يمرّر أردوغان مشروع تغيير الدستور لإعطاء صلاحيات أكبر لرئاسة الجمهورية. حقق حزب الشعوب الديمقراطي الكردي لأول مرة انتصاراً كبيراً للأكراد بنسبة 12 في المئة مقابل حزب الشعب الجمهوري 25 في المئة من الأصوات و16 للحركة القومية. هذه النتيجة لم تساعد أردوغان على تشكيل حكومة منفرداً وعجز بالتكليف، فلجأ لانتخابات نيابية مبكرة قلبت النتيجة الطبيعية وهي النتيجة الأولى التي ترجمت موقف الاتراك الاوّلي، والتي لا تحتمل ايّ ضغط ممكن ان يحصل في ايّ جولة ثانية كالتي فاز فيها حزب العدالة والتنمية فوزاً كبيراً 49 بالمئة من الأصوات ليتمكن من تشكيل الحكومة منفرداً فما الذي تغيّر؟
تدخلت واشنطن ما قبل الانتخابات المبكرة على خط الازمة التي يعاني منها أردوغان، وكانت تبدو علامات سوء للعلاقة بسبب دعم الأميركيين للأكراد بوجه حليفهم أردوغان، فبدت الازدواجية الاميركية منذ ذلك الحين حاضرة، قدّمت واشنطن عرضاً مغرياً لأردوغان قلب على أساسه المشهد في المرة الأولى وأنقذته من خسارة سياسية مدوية مقابل حلّ ملف الأكراد والتوجّه نحو المفاوضات السورية بشكل أكثر جدية، وكان ذلك عن طريق تجيير أصوات فتح الله غولن الخصم اللدود لأردوغان الذي يُتّهم اليوم بتدبير انقلاب العسكريين، مطالباً واشنطن بتسليمه قبل أن ينفي وتنفي بدورها ايّ علاقة لها بالموضوع.
مفاجأة سيطرة أردوغان على زمام الأمور كانت بحاجة لتفسيرات دخل العنصر الأميركي مجدداً فيها بعدما بدت سيطرته واضحة على الانقلاب المؤلف من العسكريين المنضوين اصلاً ضمن «الناتو». وهنا فإنّ ايّ انقسام في الجيش التركي غير مسموح به أميركياً وأيّ عبث من هذا النوع يجب ان يبقى تحت سيطرة واشنطن.
مجدّداً، تدخلت الايادي الاميركية الخفية بازدواجية يقبل بها أردوغان فتصبح الاستفادة من خصومة غولن بالحالتين تجييراً أميركياً لإنقاذه لتطرح اسئلة من نوع آخر على العداوة المفيدة والمضبوطة اميركياً!
تمسك واشنطن بشكل متماسك كلّ عناصر التحرك في تركيا. هذا ما يبدو على الجيش والقوى الكردية وفتح الله غولن وتحالف طويل مع العدالة التنمية.
هكذا أنقذ أردوغان مرتين. وفي المرتين دفع ثمن عودته «للحياة» سياسياً وجسدياً، فما هو الثمن الجديد وهل سيُصرف في سورية؟