الحرب السورية بين فانتازيا جنيف وحقيقة الميدان
العميد هيثم حسون
فانتازيا 1
بما أنّ الفانتازيا نشاط فني يحدث في فضاءات وهمية عبر استخدام عناصر خيالية وشخصيات ما ورائية ضمن إطارات متماسكة وتعتمد المنطقية الداخلية ايّ أنها بالرغم من امتلاكها لكلّ القوانين التي تبدو كأنها حقيقية إلا أنها مستحيلة التحقق.
من هذا التعريف سأنطلق لعرض تسلسل أحداث مسرحية جنيف الخاصة بالأزمة السورية، فمنذ بداية المساعي السياسية التي ارتبطت بحاجة للولايات المتحدة وروسيا لإظهار اهتمامهما بإيجاد حلّ للحرب السورية عبر المفاوضات، كان واضحاً أنّ تلك المساعي ليست سوى مسرحية تعكس إخفاق حلف الحرب في تحقيق أهدافه بالعمل العسكري، لذلك لجأت الى هذا الطريق أملاً أن يوصلها لتحقيق ذات الأهداف، وإنْ لم يتمّ ذلك فلتمرير الوقت بانتظار حدوث انقلاب في الميزان العسكري لمصلحتها.
لقد كان واضحاً منذ البداية أنّ لكلّ طرف في هذه الحرب أهدافاً متناقضة جذرياً مع الأطراف الأخرى، وبالتالي فإنّ مجرد الحديث عن الحلول الوسط يعني الهزيمة، ولهذه الضرورة كانت مسرحية جنيف.
فنرى في تسلسل أحداث فصول ومشاهد جنيف الخاصة بالحرب السورية فانتازيا اعتمدت مخزوناً فكرياً في رؤوس منظري الحرب على سورية يتعلق بأحداث سابقة في تونس وليبيا ومصر فتمّ القياس على اساسها.
وكان أول تلك الخيالات هو الإصرار على انّ الدولة السورية آيلة للسقوط، وانّ المسألة هي مسألة وقت فقط، وأنّ مؤسسات الدولة بدأت بالإنهيار.
وأعدّوا لذلك عروضاً مسرحية أبطالها بعض الفارّين من المؤسسة العسكرية أو مطلوبين للقانون أو مخطوفين تمّ إجبارهم على تسجيل تصريحات تخدم ذلك الهدف.
وبدأت إجراءات تحضير السلطة البديلة في دوائر الاستخبارات الراعية للحرب على سورية بتمويل هائل وخدمات إعلامية لا مثيل لها.
وتمّ تحضير متطلبات الأحداث فسمّي الرئيس ونوابه والوزراء والمدراء وجهّزت المقرات في فنادق تركيا وباريس والرياض والدوحة.
ولكن عندما يئس الجميع من استسلام أو سقوط الدولة السورية بدأت مساعي تلك الدول لإنشاء تحالف دولي يتيح إسقاطها عسكرياً بما يماثل تجربة ليبيا، فتمّ إحداث مجموعة العمل الدولية من أجل سورية، بعضوية دول الاستعمار القديم وعصابة الجامعة العربية، ودُعيت روسيا والصين لسدّ الذرائع.
عقدت تلك الدول اجتماع جنيف الأول الذي انتهى بتاريخ 30/6/2012/ بعد اجتماعات عديدة.
وبسبب الغطرسة وجنون العظمة طراف العدوان وجهلهم بقوة عدوهم ومصداقية حلفائه لم تتمّ دعوة أيّ ممثل للدولة السورية على أيّ مستوى كان.
واعتبروا أنّ مهمة هذه الدولة هي انتظار صدور مقرّرات اجتماعهم الذي أسموه «بيان جنيف 1» وتسلُّمها عبر وسائل الإعلام وتنفيذها بدون نقاش أو اعتراض، وجاءت مقرّرات ذلك الاجتماع معبّرة عن تلك الذهنية البعيدة عن المنطق والواقع. والمعبّرة أيضاً عن خيال مريض في رؤوس من فرض تلك القرارات.
حدّدت مواعيد تنفيذ تلك المقرّرات مشفوعة بقائمة تهديدات ليس آخرها الغزو العسكري الخارجي وزيادة الدعم العسكري وغير العسكري لما أسموه «معارضة سورية».
وبالرغم من وجود عدة مقرّرات تمّ التركيز على واحدة فقط وهي المتعلقة بإنشاء هيئة للانتقال السياسي، وهذا البند هو كلّ ما علق في أذهان حتى من صاغ القرارات.
بعدها سارت الأمور بين اجتماعات وتهديدات ومعارك وانتهت هذه المرحلة باستقالة كوفي أنان بعد فشل كلّ المساعي السياسية والعسكرية لإسقاط الدولة السورية.
وبالرغم من إدخال آلاف المقاتلين المدرّبين والمسلحين والممسوحة عقولهم دينياً وايديولوجياً وارتكاب عشرات المجازر المروّعة التي اتهمت فيها القوات المسلحة السورية وحلفاؤها.
وبلغ الضغط الدولي ذروته من خلال التهديدات الأميركية والأوروبية والتركية بالغزو العسكري المباشر والذي فشل في الحصول على تغطية أممية لرفض روسيا والصين ايّ عمل عسكري.
فانتازيا 2
مع اقتراب عام 2012 من نهايته بدأت مساع جديدة لإحياء اجتماعات جنيف في فصل جديد يحمل الرقم 2، وبدأت أعمالها بتاريخ /22/1/2014، وذلك من أجل تنفيذ مقرّرات «جنيف 1». وعقدت الجولة الجديدة في مونترو بوجود المبعوث الأممي الجديد الأخضر ا براهيمي، وكسابقه لم تتمّ دعوة أيّ ممثل للحكومة السورية. وسبقت الاجتماع مساع كبيرة لتحقيق إنجاز عسكري على الأرض من خلال زيادة الضغط العسكري على كلّ الجبهات وخاصة القريبة من دمشق.
إلا انّ ذلك كله لم ينجح في تحويله الى حصاد سياسي بسبب الصمود السياسي والنفسي والعسكري للقيادة السورية، والتي بدأت بالحصول على دعم عسكري مؤثر.
وكما حصل في الفصل الأول من هذه المسرحية طلبت مقرّراته من الحكومة السورية تسليم كلّ مفاتيح السلطة بكلّ مكوناتها لمجموعة السحرة الذين تحركهم تمائم المال والاستخبارات والإرهابيين. حيث حافظ هؤلاء ومشغلوهم على سقف مطالبهم العالي والذي يصل إلى تسلّم الدولة على طبق من ذهب.
وانتهى الفصل الثاني لهذه المسرحية بحصول تغيّرات كبيره في خطوط الانتشار الميداني لمصلحة الجيش العربي السوري وحلفائه وذكاء بالغ في الاستثمار السياسي لمنجزات الميدان وتوّجت باستقالة الإبراهيمي.
وبذلك بدأت مرحلة التحضير للفصل الثالث من مسرحية جنيف وكانت أولى خطواتها تعيين ستيفان دي ميستورا مبعوثاً دولياً جديداً، فكان المشهد الأول لهذا الفصل في 9 شباط 2015.
تميّزت هذه المرحلة بإدخال ممثلين جدد تمّ تحضيرهم خلال مؤتمر الرياض، وهؤلاء يمثلون تقاسم النفوذ السعودي التركي الأميركي من خلال انتمائهم وتمويلهم.
وتمّ تدريب تلك المجموعة أكاديمياً بشكل مكثف لإكسابهم خبرات في عملية التفاوض خاصة أنهم سيكونون في مواجهة مباشرة مع عتاة الدبلوماسية السورية، وهذا سيجعل منهم أضحوكة ومثار سخرية. وقد تمكن وفد الدولة السورية من الاستفادة القصوى من الظهور الإعلامي فكانت إطلالاتهم الإعلامية تحظى باهتمام كلّ المراقبين ولم تعد أوساط الحرب قادرة على التعتيم الإعلامي فكان نصراً إعلامياً قبل بدء العمل التفاوضي.
وانعكس ذلك على ممثلي الرياض خيبة وخلافات بين الممثلين ومشغليهم وكادر العمل. إلا أنّ تطورات المشهد الميداني دفعت ممثلي الرياض الذين حضروا بكلّ خيالات «جنيف 1» الى حافة فقدان عقولهم، خاصة أنهم لم يستوعبوا انهم ليسوا أكثر من دمى في مسرحية خيالية، وأنّ الحقيقة في مكان آخر، فتمّ إنهاء هذا المشهد على غير ما يرغبون.
وبعد مشاورات كثيرة تمّ الإتفاق على الدخول في مشهد جديد فكانت انطلاقته بتاريخ 13/3/2015، وبما انّ تلك الشخصيات مبرمجة من قبل مشغليها على مقرّرات «جنيف 1» والتي تعود للعام 2012، وهذه البرمجة غير قابلة للتطور فقد تمّ إعلان إنهاء هذا المشهد أيضاً من مسرحية جنيف في فصلها الثالث.
ومع تقدّم مراحل هذا الفصل حصلت تطورات كبيرة جداً تميّزت بالدخول العسكري الروسي بشكل مباشر وعلني وصريح، والذي أدّى إلى انقلاب الصورة الميدانية، فحصلت إنجازات كبيرة أهمّها تحرير الريف الشمالي للاذقية وتحرير تدمر والقريتين، ترافق ذلك مع إعلان إيران صراحة عن دعمها دمشق عسكرياً… وفي ظلّ هذه التغيّرات الجذرية اعلن دي ميستورا ان مشهداً جديداً في الفصل الثالث يجري التحضير له.
ورفعت الستارة على مشهدية هزلية في أواسط نيسان 2016 من خلال مساع لم تستطع أن تعيد الأطراف إلى المسرح ولا زالت الفرصة قائمة لفصول جديدة في تلك المسرحية، وبطبيعة الحال فإنّ جنيف لن توصل إلى نتيجة. فالعرض الأخير يتمّ إعداد النصوص له ولكن هذه المرة ليس بيد وأقلام وخيالات من كتب الفصول السابقة، بل بحبر حقيقي وبأيدي من يمسك بكلّ خطوط المواجهة وبخطط لا مكان فيها للخيال والأحلام، بل هي واقعية بكلّ أحداثها وفي مسرح مساحته الجغرافيا السورية لا قاعات ومسارح جنيف وفنادق الرياض وتركيا، ولا حاجة هنا للمؤثرات الصوتية والضوئية فكلّ شيء حقيقي.
اما حلفاء العدوان فهم اليوم تائهون غارقون في أحلام استحالت كوابيس، لأنّ الفانتازيا التي عاشوا فيها لأعوام في ردهات وشوارع وفنادق فيينا وجنيف لا تشبه أحداث الواقع الذي يجري في حلب وفي غوطة دمشق وكلّ الخطوط التي تنهار عليها أحلامهم.
في كلّ الأحوال فإنّ فانتازيا جنيف بكلّ فصولها لن تؤدّي الى نتيجة بالرغم من الأضواء المسلطة عليها لأنّ تأثيرها سينتهي بمجرد إزالة المؤثرات بل هي تمهّد لاجتماع لن يحضره ممثلو الرياض وسيعقد في ايّ مدينة أو بلدة أو قرية أو خيمة سورية، لإعلان النصر ووضع اسس إعادة بناء سورية التي لا تشبه خيالات أعدائها…