أردوغان في موسكو… دلالاتٌ ومعانٍ
راسم عبيدات
واضح أنّ الرئيس التركي أردوغان يُعيد تموضع وتطبيع علاقاته مع دول الجوار بشكلٍ يأخذ منعطفاً حاداً، دون أن يصل ذلك إلى حدّ الانقلابِ الجذري والاستدارةِ الكلية، وتخلي أردوغان عن سياساتهِ ومواقفهِ السابقه، لا سيما في ما يختص ويتصل بالأزمةِ السورية، فأردوغان وفق الدور الموكل إليه في المشروع والمخطط الأميركي ـ الاستعماري الغربي الصهيوني للمنطقة العربية، كان لاعباً رئيسياً في هذا المشروع لجهةِ دعم وتمويل وتسليح ومرور وتحرك واحتضان الجماعات الإرهابية من «داعش» و»النصرة» وغيرها من التشكيلات والمجاميع الإرهابية، ناهيك عن إدخال وضخ الاحتياط البشري الإرهابي إلى داخل الأراضي السورية، وأردوغان لا يقوم بتلك المهام خدمةً مجانيةً للمشروعِ الأميركي في المنطقة، فهو كان يريد أن تقف أميركا ودول أوروبا الغربية إلى جانبهِ في قضيةِ فرض مناطق حظرٍ جويّ على شمال سورية، تحت حجج وذرائع حماية اللاجئين السورين وحماية الأقليات الأثنية من العرب التركمان وغيرهم، وليس هذا فحسب، بل كان لديه طموح عالٍ بأن يقتطع جزءاً من الجغرافيا السورية وبالذات الشمال السوري.
ولم يقتصر انتفاع أردوغان من تلك الجماعات الإرهابية على ذلك، بل كان يشارك «داعش» في سرقةِ وتهريب النفط السوري، وكذلك نهب وسرقة مصانع حلب، وأردوغان وقف مع السعودية ودولِ الخليج الأخرى بعنادٍ ضدّ أيّ حلٍّ سياسيٍ للأزمةِ السورية لا يتضمّن رحيل الأسد، بل كان البوق الأساسي لهذا الموقف المتشدّد.
التطورات التي حصلت ما بعد خريف 2015، وبالتحديد بعد إسقاط المقاتلات التركية لطائرة السوخوي الروسية، والتي أدخلت تركيا في أزمةٍ وورطة مع روسيا، حيث رفض أردوغان بداية، وبتشجيع من واشنطن، الاعتذار لروسيا عن إسقاط الطائرة الروسية، ولتكن ردّ الفعل الروسية بفرضِ سلسلةٍ من العقوباتِ الاقتصاديةِ والتجاريةِ والسياحيةِ والتهديد بوقفِ خط النفط الروسي الذي يمرّ بالأراضي التركية «السيل التركي»، تلك العقوبات التي أصابت الاقتصاد التركي في عصبه الرئيسي، حيث حجم التبادل التجاري بين البلدين يصل إلى مئة مليار دولار سنوياً، والسياحة الروسية لتركيا شكلت وتُشكل مصدر دخلٍ كبير للاقتصادِ التركي وتشغيل الأيدي العاملة. بدا واضحاً بأنّ الخلاف الأميركي ـ التركي من الأزمة والمسألة السورية يتصاعد، حيث أميركا كانت تريد أن يُشارك الأكراد كمعارضةٍ سوريةٍ في مفاوضاتِ جنيف، وليس هذا فحسب، فأردوغان وجد بأنّ أميركا لا تأبه لمصالحه لا من قريب ولا من بعيد، بل يجري توظيفه في خدمةِ المشروع والمصالح الأميركية، فأميركا تدعم ما يسمّى بـ»قوات سورية الديمقراطية» والتي يشكل الأكراد عمودها الفقري، وبالتالي كان أردوغان يتخوّف من أن تؤيد أميركا إقامة كيان كردي على طول الحدود السورية العراقية، وفي عمقِ الأراضي التركية، وهذا يؤثر على أمنِ تركيا واستقرارها ووحدةِ أراضيها، ومن هنا بدأت تختمر عوامل الاستدارة في الموقف التركي من العلاقة مع دول الجوار وما يتصل بموقفها من الأزمةِ السورية على وجهِ التحديد، وكذلك الإحباط التركي الكبير من إمكانيةِ الانضمامِ إلى الاتحادِ الأوروبي، ومن هنا وجدنا أردوغان يُعيد علاقاته إلى سابقِ عهدها مع «إسرائيل» ما قبل أزمةِ سفينةِ «مرمرة» التركية، لتحقيق مصالحٍ أمنيةٍ واقتصاديةٍ مشتركة، وكذلك بدأ بتطبيع العلاقة مع روسيا، بالاعتذار عن إسقاط الطائرة الروسية، ودفع تعويضات عن إسقاطها وحتى محاكمة من قاموا بإسقاطها، ووجدنا بعد الانقلاب حديثاً تركياً عمن أسقطوها، هم من أنصار الزعيم التركي فتح الله غولن الموجود في أميركا، وكان هدفهم توريط تركيا مع روسيا.
وبغضّ النظر عن هذا الحديث، فإنّ التطورات المتلاحقة التي حدثت في تركيا، كانت عوامل حاسمة في رسمِ أردوغان لسياسته ومواقفه من جديد في الداخل التركي والعلاقات مع دولِ الجوار والإقليم والعالم، حيث كان الانقلاب الذي قامت به مجموعة من الجيش على أردوغان، هذا الانقلاب الذي فشل، دفع بأدروغان إلى القيام بحملةِ تطهيرٍ و»غربلةٍ» وإعادةِ هيكلة في ما يخص الجيش والإعلام والتربية والقضاء، والحجة والذريعة هنا مطاردة أنصار الزعيم التركي فتح الله غولن المتهم بتدبير الانقلاب، هذا الانقلاب الذي كشّف وفتح عيون أردوغان على حقائقٍ جديدة، بأنّ أميركا ليست حليفاً موثوقاً لأردوغان، فهي التي تدّعي الديمقراطية، وقفت إلى جانب الانقلابيين، وكذلك هي السعودية التي تتشارك معها في المواقف من الأزمة السورية، كانت في صفِ الانقلابيين، في حين أنّ الدول التي كانت تستعديها وتقف ضدّها في ما يتصل بالأزمة السورية والقضايا الإقليمية والدولية، من روسيا إلى إيران وحتى سورية، وقفت ضدّ الانقلاب، وقالت بأنّ حلّ الخلافات والمشاكل يكون في إطار الدستور. أردوغان يخرج في أولِ زيارةٍ له إلى الخارج، وهو يدرك حجم المخاطر المحدقةِ بسلطته وزعامته، فما زالت التخوّفات كبيرة وقائمة من حدوثِ انقلابٍ آخر، رغمَ حالةِ الطوارئ المعلِنة في البلاد، وعمليات الملاحقة والتطهير، ولكن البلاد تسودها حالة من عدمِ الاستقرار الأمني والسياسي،، وزيارته إلى روسيا كأولِ محطةٍ له بعد الانقلاب مفصليةٍ وتاريخية وعلى درجةٍ كبيرةٍ من الأهمية، وكما هي مهمة هذه الزيارة لأردوغان، فهي مهمة كذلك لروسيا، حيث إمكانية الاستفادة الروسية من سوء العلاقة بين أردوغان والأميركيين أحد أبرز عناصر المرحلةِ الجديدة المتعلقة بالأزمةِ السورية. وهذا ما يُفسّر بشكلٍ أوضح مسألة عزم أردوغان على تركِ البلاد في مثل هذه الأوقات. فاللقاء بالرئيس الروسي بوتين والذي وصفه أردوغان بصديقه على قدرٍ بالغٍ من الأهمية ويحملُ في طياته ضمانُ مستقبلِ أردوغان من جهةٍ ومعرفةِ مآلات الأزمة السورية من جهة أخرى، وما يمكن للطرفين أن يؤسّسا له في لحظةِ تحوّلٍ جدّي نحو المفاوضات. زيارة أردوغان لروسيا تحمل أكثر من بعد ومعنى، فهي تقول بشكلٍ واضح للأميركان بأنّ أردوغان، ما قبل الانقلاب ليس كما بعده، وأنه لا ثقة بالأميركان لا على صعيد المواقف ولا السياسات، وأيضاً فهو يسعى لترميم العلاقات مع روسيا على الصعيد الاقتصادي، والتفاهم السياسي مع روسيا قد يمهّد لتقدّم جدّي وحقيقي في الجوانب السياسية، خاصة في ما يتعلق بالموقف من الأزمة والحلّ السياسي في سورية، وبما يضمن لأردوغان مستقبله واستقرار تركيا ووحدة أراضيها، وفي المقابل تطبيع العلاقات مع سورية على قاعدةٍ شرعيةٍ قيادتها ووحدة أراضيها. بانتظار زيارة أردوغان إلى موسكو وما تحمله من تطوراتٍ وتغيّراتٍ وتبدّلاتٍ في المواقف والتحالفاتِ الإقليمية والدولية.
Quds.45 gmail.com