بوتين.. وشطرنج دولي
نظام مارديني
منذ وصوله إلى قصر الكرملين، أطلق فلاديمير بوتين العنان لدور روسيا المستقبلي: أيّها الأميركيون لقد تغيّرت قواعد اللعبة…!
حتى هذه اللحظة لا تزال المنطقة تدار بالخيوط الأميركية. فإن الروس كسروا الإيقاع القديم… معلّقون في واشنطن، يقرّون بأن أميركا لم تعُد تنتج «النجوم».. حسناً، كيف تصنع النجوم مَن تلعب بالعالم بمنطق طاولة النرد؟
في كتابه «السياسة الخارجية تنطلق من الداخل»، يقول الدبلوماسي والباحث الاميركي البارز ريتشارد هاس إن مشكلة العالم الآن أنه من دون رأس، فالحساسية الاقتصادية داخل الولايات المتحدة والناجمة عن ظهور خارطة جديدة للأسواق، أحدثت نوعاً من الصراع بين أميركا و.. أميركا.
وفي مقاربة للمسائل الأساسية التي أثارها في كتابه، يشير إلى أن حقبة الاستقطاب الثنائي بين واشنطن وموسكو كرّست نوعاً من المرجعية الدولية تمكن العودة اليها لمعالجة أزمات العالم، وسواء أكانت هذه طارئة أم بعيدة المدى. والمشكلة أنه إثر زوال الامبراطورية السوفياتية اعتبرت واشنطن أن الكرة الأرضية ستدور من الآن وصاعداً حول المكتب «البيضاوي» في البيت الأبيض، قبل أن يقول روبرت كاغان كلمته الشهيرة «لقد ظننا أن الشيطان مات، ولكن يبدو أن آثار قدميه في كل مكان».
لم تعد أميركا هي التي تصنع الحلول أو هي التي تطوي الأزمات بطريقة أو بأخرى، مع ان الكثيرين في الشرق الاوسط يعتقدون ان المخططين في واشنطن، وسواء أكانوا في البيت الابيض، أم في البنتاغون أم في وزارة الخارجية، يُمسكون، على الأقل، بالقضاء والقدر، وهذا ليس دقيقاً ولا واقعياً، ليس فقط إذا ما اخذنا بالاعتبار طبيعة التضاريس الايديولوجية، بتفاعلاتها الصاخبة، في المنطقة، وانما ايضاً اذا ما اخذنا بالاعتبار المنحى الذي تأخذه التحوّلات الدولية…
لا وجود للخيال الهوليوودي في عقل بوتين، حتى على الشاشة يبدو الخيال وكأنه يمشي، أفقياً، على قدميه، أو يغوص في العمق الجيولوجي للكائن البشري، نلاحظ هذا في «المدمرة بوتمكين» لسيرغي ايزنشتاين، وفي «الحصان الذي يبكي» لمارك رونسكوب.
في الأدب أيضاً، الخيال الأفقي، ومن «آنا كارنينا» لليون تولستوي الى «أرخبيل الغولاغ» لالكسندر سولجنتسين..
لطالما احترف سلفادور دالي، بأصابعه الفذة، تسييل الأزمنة، في لوحاته، إلا ان الدول الكبرى احترفت، بأصابعها الغليظة، تسييل الأزمات.. تصنيع الأزمات بمعايير محددة، وبمواصفات محددة، ولأغراض محددة…
كانت الولايات المتحدة تعيش واهمة بقدرتها على اغتيال حتى الزمن فينا، وباستطاعتها وقف الإيقاع التاريخي فينا عند الف ليلة وليلة أو عند داحس والغبراء قبل أن تدفعنا الى ذلك المستنقع الايديولوجي عودوا الى خطة جون فوستر دالاس حول التفخيخ العقائدي للإسلام اما عندما يظهر الروس على المسرح الدولي، من الشواطئ السورية وحتى جزيرة القرم على حدود أوكرانيا، وهم بالملابس المرقطة، على أميركا وحلفائها الصراخ: يا للطامة الكبرى.. ولكن كل هذا الصراخ لن يكون مجدياً.. على الأرض، وفي الجو، قواعد جديدة للعبة جديدة.. إما المضي في ثقافة الصحارى أو التفاعل مع لغة القرن.
منذ قرنين تماماً، وفي مؤتمر فيينا 1815 قال كلمنت ميترنيخ «لا تسويات مقدّسة، ولكن من قال إن الحروب مقدّسة؟»… الدببة القطبية تجوب خارطة العالم.. لم يعد هناك لاعب واحد على رقعة الشطرنج.. فمن فضلكم حاولوا أن تفقهوا أن ثمة قواعد جديدة للعبة!!