ماذا يجري في سورية: حرب حسم.. استنزاف.. أم «شوربة» أعدّها الأميركي؟
ميشيل حنا الحاج
ماذا يجري في سورية؟ ومن يقاتل من؟ بعد ما لاح في الأفق تبدّل في خارطة التحالفات القائمة بين الأطراف المعنية بتلك الحرب؟ وهل تسعى، تلك الحرب، لتحقيق حسم في المواقف السياسية والعسكرية، أم هي حرب تسعى، فقط، لاطالة أمد الحرب، لأسباب أخرى، قد لا تتكشف للعيان للوهلة الأولى.
مفاجأة تبدّل التحالفات
التوافق الروسي – الأميركي بات مهدّداً بالانهيار، والتحالف التركي الأميركي- الخليجي، بات أيضاً، مقبلاً على التلاشي. ومثله، تهدّد بالفشل، الحلم الأميركي بتأسيس منطقة كردية ذات حكم ذاتي، كنواة لدولة مستقلة، تتحد في المدى القريب مع «كردستان العراق». وفي وقت لاحق، مع «كردستان تركيا» و«كردستان إيران»، كنواة لدولة كردية واسعة مستقلة ومتحالفة مع الولايات المتحدة، غايتها تحقيق كماشة مع «إسرائيل»، تطوّق دول المنطقة، تنفيذاً لاستراتيجية أميركية ثابتة، تفترض أنّ أمن «إسرائيل» من أمن الولايات المتحدة، لكونه يشكل أيضاً، الضمان الأهمّ للمصالح الأميركية في المنطقة.
من أجل ذلك، تسعى أميركا بصمت، لإيجاد دولة أخرى في المنطقة، هي الدولة الكردية، تتحالف معها وتنسق مع «إسرائيل»، باعتبار أنّ الدولتين، الكردية و«الإسرائيلية»، ستشكلان معاً كما سبق وذكرت كماشة تحقق مصالح الولايات المتحدة، وتضمن أمن «إسرائيل» الذي هو من أمن الولايات المتحدة.
كانت الولايات المتحدة تسعى منذ عقود، لحماية مصالحها وضمان أمن «إسرائيل». وفي سبيل تنفيذ تلك الاستراتيجية، خططت لتحقيق الشرق الأوسط الجديد، المتمثل بدول مجزأة ومقسمة إلى دويلات ممزقة، غير قادرة على تهديد أمن «إسرائيل» أو خوض حروب ضدّها. وعندما فشلت في ذلك، رغم غزو العراق، الذي لم يحقق إلا جزءاً من أهدافها، لكن ليس كلها، اقتضى الأمر اللجوء إلى شكل آخر من أشكال التجزئة، يحقق هاتين الضمانتين لها. فطرحت، عندئذ، في مجالس مفكريها ومخططيها الاستراتيجيين، فكرة الكماشة الشرق – أوسطية، المتمثلة بـ«كردستان» و«إسرائيل». وهناك احتمال بات يبدو مرجحاً، بأن تكون كلّ حركات «الربيع العربي»، مجرد مقدمات نحو تحقيق هذه الأهداف، وذلك عبر خلق حالة من الفوضى العارمة في المنطقة، خصوصاً في سورية، تبعد الأنظار عن الأهداف السرية الاستراتيجية الكامنة وراء ذاك الربيع الغامض، ولكن الممهّد لخلق الأجواء الملائمة، لظهور الدولة الكردية – الركن الاستراتيجي الأهمّ مستقبلاً، في ضمان المصالح الأميركية و«الإسرائيلية» معاً.
هكذا لم يعد أحد يدري ما الذي يجري حقاً في سورية. اذ أنّ الحابل اختلط بالنابل، ولم يعد أحد قادراً على تحديد حقيقة ما يجري، ومن هي الأطراف التي تدير لعبة الحرب هناك. بل ومن يقاتل من! لكن الأيام تكشف تدريجياً، أنّ ما يجري على الأرض السورية، ليس حرباً كلاسيكية بين طرفين يسعى كلّ منهما لتحقيق هدف محدّد. فلو كانت حرباً تسعى لتحقيق هدف معيّن ومحدّد، وهو إسقاط النظام السياسي في سورية، لانتهت الحرب منذ زمن بعيد، بعدما ثبت لقاصي والداني أنّ هدفها هذا مستحيل التحقق…
فالحرب العالمية الأولى، حسمت في أقلّ من أربع سنوات. والحرب العالمية الثانية، احتاجت لفترة أطول، لكنها حسمت في أقلّ من خمس سنوات ونصف السنة. علما أنّ المتقاتلين في الحربين العالميتين، كانوا دولاً كبرى يحسب لها حساب. أما الحرب في سورية، فقد أنهت سنواتها الخمس، مضافاً إليها شهور عدة، تقارب النصف عام، ومع ذلك، لا تلوح في الأفق بوادر لاقتراب الحسم. بل توحي كلّ المؤشرات، وخصوصاً الحملة الكردية، معززة بدعم أميركي في شمال سورية، ثم التدخل التركي في الشمال أيضاً، وفتح جبهة أخرى جديدة هي جبهة حماة… كلها تنذر بمزيد من الاشتعال والاقتتال، ومعها مزيد من الضحايا.
ففتح جبهة أخرى في محافظة حماة، لا يسعى، فحسب، لتخفيف الضغط عن جبهة حلب، بل لاطالة أمد الحرب أيضاً. في وقت بدأت فيه تلوح في الأفق بوادر الاقتراب من حسم سوري لها، بعد استكمال القوات السورية محاصرة حلب، واجبارها المقاتلين في داريا القريبة من دمشق، على مغادرة المدينة ومن ثم التوصل، بعده، إلى توافق مماثل في المعضمية، التي كانت أيضاً، إلى حين، تحت هيمنة المجموعات الإرهابية المسلحة.
وفي المقابل، جاء التدخل التركي في الشمال السوري، بالتعاون مع «الجيش الحر»، الذي يبدو أنّ ولاءه الأكبر هو لتركيا، لوضع حدّ لتقدّم «جيش سورية الديمقراطية» و«قوات حماية الشعب الكردي»، في تلك المناطق، بعد أن نجحت تلك القوات، بمؤازرة خبراء أميركيين وطائرات سلاح الجو الأميركي، في السيطرة على مساحات واسعة من المنطقة الشمالية، شملت العديد من القرى، إضافة إلى مدينة منبج الاستراتيجية مع السعي للتقدّم نحو مدينة الباب الحدودية مع تركيا. لكن التدخل التركي، وسيطرته على مدينة جرابلس، ووصوله إلى عين العرب كوباني ، وما تبعه من قصف تركي لمواقع القوات الكردية، يرافقه توعّد أردوغان رغم النداءات الأميركية المطالبة بوقف التدخل التركي بمواصلة التدخل التركي، إلى حين وقف الزحف الكردي في الشمال، وإنهاء عبور الأكراد لنهر الفرات نحو الغرب، الأمر الذي يهدّد أمن تركيا، لاعتباره قوات الحماية الكردية، هي الحليف والامتداد لقوات PKK التركية الكردية، التي تقاتل القوات الحكومية في تركيا، منذ أعوام عدة.
الردّ الأميركي على تركيا…
وشكل التدخل التركي، الذي لم يواجه اعتراضاً من روسيا، صفعة كبرى للمساعي الأميركية، لفرض الهيمنة الكردية على كامل الشمال السوري، تمهيداً لتأسيس ذاك الكيان الكردي المتمتع بالحكم الذاتي، كخطوة أولى، نحو تحقيق الهدف الأكبر للأكراد أيّ الاستقلال ، بل وللمخطط الأميركي، الذي يسعى إلى شرق أوسط جديد، لكن بثوب جديد أيضاً. وهكذا، جاء الردّ الأميركي سريعاً، بمساعدة المجموعات المسلحة، على فتح جبهة جديدة هي جبهة حماة، تخوض معاركها ضدّ القوات السورية، علماً أنّ شمال ريف حماة، ظلّ آمناً طوال سنوات الحرب السورية الخمس.
والواقع أنّ المجموعات المسلحة لم يكن بوسعها، من تلقاء نفسها، أن تفتح جبهة جديدة، وأن تحدّد الموقع الجغرافي الأفضل لجبهة كهذه، رغم أهمية الجبهة الثانية في هذا الصراع، وضرورتها للتخفيف من الضغط السوري – الروسي على جبهة حلب. ففتح جبهة ثانية كجبهة حماة، كان بحاجة لمزيد من التسليح، إضافة إلى التخطيط السياسي والاستراتيجي المستند إلى المعلومات الاستخبارية، التي لها الدور الأساسي والحاسم، في اختيار الموقع الأفضل لتنفيذ الهجوم عليه. وهذه معلومات لا تملكها المجموعات المسلحة، وتعتمد فيها على المعلومات الاستخبارية التي تزوّدها بها الحكومة الأميركية. فالأميركيون هم الذين يملكون الأقمار الصناعية وطائرات التجسّس، سواء «الدرون» أو «الأواكس»، إضافة إلى أجهزة استخباراتهم الأخرى. وهذه المعلومات، هي التي حدّدت مواقع الضعف للجيش السوري، مما مكن المعارضة المسلحة، ممثلة بـ«جند الأقصى» و«جيش النصر» وغيرها من التنظيمات المعارضة، من اختراق المواقع السورية في ريف حماة الشمالي. فبدونها، ما كانت قادرة على تحقيق الأهداف السريعة التي تحققت للمعارضة في تلك المواقع. علماً أنّ الهدف الحقيقي، ليس على أرض الواقع، فتح جبهة قتال جديدة، بل هو في عمق الرؤية والتحليل، إطالة أمد الحرب، التي لا يريد البعض انتهاءها.
والواقع أنّ الأهداف الحقيقية للحرب السورية ابتداء، تزداد غموضاً يوماً بعد آخر. فهل تسعى المعارضة المسلحة ومؤازروها، سواء في دول الخليج، أو الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، لإسقاط النظام السوري حقا، وإبعاد الرئيس بشار الأسد عن مقعد القيادة؟ أم لها أي للمعارضة أهداف أخرى تتفاوت مع أهداف حلفائها في الدول الغربية، خصوصاً الولايات المتحدة. فالمعارضة المسلحة، المؤيدة من قبل دول الخليج وخصوصاً السعودية وقطر وتركيا إلى حين ، تريد إقامة «نظام إسلامي جهادي»، بينما تريد أطراف التحالف الأخرى، أيّ الدول الداعمة للمجموعات المسلحة، وبالذات الولايات المتحدة، مجرد إضعاف الرئيس السوري، من دون إسقاطه، خوفاً من البديل والنتائج المترتبة على ذلك، مع التطلع إلى موافقة الرئيس السوري على اتخاذ موقف أقلّ تشدّداً من الموقف السوري الحالي، المعارض للحلّ السلمي مع «إسرائيل»، الذي اعتبرته سورية، على الدوام، حلا استسلامياً. كما تريد منه الموافقة على مباركة تشكيل الكيان الكردي في شمال سورية، بإطار الحكم الذاتي مبدئياً، مع نوايا أميركية خفية، لكنها لا تخفى على السوريين، لتحويله إلى كيان مستقل مستقبلاً، تنفيذاً لمخططها الأشمل لمنطقة شرق أوسط جديد بإطاره الجديد.
أما ثالث الحلفاء، في هذا التحالف الكبير والواسع ضد سورية، وهو تركيا، فلها أهداف خاصة تتفاوت مع أهداف الحلفاء، سواء في دول الخليج، أو في الدول الغربية. وأهدافها تمتدّ إلى اقتطاع أجزاء من سورية، كما اقتطعت من قبل عام 1939 لواء الاسكندرون، لتضمن بسط هيمنتها كما سبق وذكرت على المناطق الكردية، وتحول بالتالي، دون تحوّلها إلى ظهير مناصر لأكراد تركيا، الذين ثاروا لسنوات على الهيمنة التركية. وطالما هدّدوا بالعودة إلى التمرّد. وقد نفذوا ذلك مؤخراً، على أرض الواقع. فمن أجل تحقيق هذا الهدف، اعتذر أردوغان للدولة الروسية عن إسقاط طائرة «السوخوي» في العام الماضي. ووافق على استبدال التنسيق مع أميركا، بالتنسيق مع روسيا، كما بدأ يتجلى للعيان تدريجياً.
إذن، الأهداف بين القوى المتحالفة تبدو متفاوتة، وبسبب تضاربها أحياناً، طالما أحبط هذا الطرف أو ذاك، كلّ المحاولات للتوصل إلى حلول سلمية للمسألة السورية، لأنّ أياً من الأطراف لا يريد الحلّ الذي يريده الطرف الآخر. وتعزز هذ التطورات الأخيرة المفاجئة في قائمة التحالفات، وفتح مزيد من الجبهات، احتمال التوجه نحو الأسوأ، الذي قد يصبح المستفيد الأكبر منه، هو «داعش»، التي ستنشغل تلك الأطراف عنها، ولو لبعض الوقت.
الأهداف الأخرى الخفية لتلك الحرب
لكن هل هناك أهدافاً أخرى خفية من وراء تلك الحرب في سورية، لدى بعض أطرافها على الأقلّ، وبالذات لدى الولايات المتحدة، التي لا تشارك فيها بشكل مباشر، وتكتفي باستخدام سلاح جوها، إضافة إلى إرسال الخبراء العسكريين، لمؤازرة أكراد سورية، من دون التنظيمات الأخرى؟
الواقع والحقيقة يقتضيان القول، إنّ الولايات المتحدة لا تكتفي، حقاً، بتلك المشاركة المحدودة، المشار اليها سابقاً. فهي رغم امتناعها عن المشاركة العسكرية المباشرة، كما فعلت روسيا الاتحادية، التي أرسلت خبراءها وطائراتها للمشاركة فيها، فإنّ الولايات المتحدة تشارك بكثافة في النشاط السياسي المتعلق بالبحث عن حلّ سلمي لتلك الأزمة. ومن أجل ذلك، يلتقي جون كيري، وزير الخارجية الأميركي، بسيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، بحثاً عن الحلّ السلمي الودّي والمناسب لتلك الحرب. ويطلق بعدها الوزيران تصريحاتهما المرجحة لاقتراب الحلّ. وغالباً ما يرافق التصريحات الأميركية، على لسان جون كيري، ابتسامة عريضة ومطمئنة على اقتراب الحلّ. كلّ ما في الأمر، أنّ الشاعر العربي يقول: إذا ما رأيت نيوب الليث بارزة، فلا تظنن أن الليث يبتسم. فتلك الابتسامة الكيرية ، تخفي النوايا السرية والحقيقية لتلك الحرب.
فالولايات المتحدة لا تسعى فعلاً لإنهائها. والأرجح أنها لا ترغب في إنهائها، بل تريد إطالتها إلى أمد طويل، محولة إياها إلى حرب استنزاف طويلة، لا تقبل حلاً في المدى القريب. فمن أهمّ عناصر الاستنزاف، هو الامتداد بالزمن، الذي يشكل أهمّ عنصر في هذا النوع من الحروب. ومن حروب الاستنزاف التي شهدها العصر الحديث، الحرب الأهلية في لبنان، التي استغرقت خمسة عشر عاماً. والتي أخذت أشكالاً مختلفة وأطرافاً متقاتلة متنوعة. أريدَ لها، في البداية، أن تكون حرباً لمشاغلة الفلسطينيين، الذين تحوّلوا إلى دولة داخل دولة، لكن الحرب استمرت بأطراف أخرى، عندما خرج الفلسطينيون من لبنان، في أيلول 1982. وكذلك الحرب بين العراق وإيران، التي استغرقت ثماني سنوات طويلة، من دون مبرّر واضح لاستمرارها.
فالامتداد في الزمن في الحرب السورية، يوفر للأميركيين تحقيق أهداف عدة، كلها هامة. فهي استنزاف لأموال النفط الخليجية وخصوصاً السعودية منها. وهي استنزاف للقوات السورية المسلحة، التي تشكل التهديد الوحيد لـ«إسرائيل». وهي ورقة سياسية ضاغطة على الرئيس السوري، تستحثه على تقديم التنازلات بالنسبة للتسوية مع «إسرائيل»، وبالنسبة لتمهيد الطريق لظهور الدولة الكردية، وتقديم تنازلات لتأسيس الكيان الكردي بحكم ذاتي، من حيث المبدأ، إضافة إلى هدف آخر، هو أهمّها، تشغيل مصانع الأسلحة في الولايات المتحدة، التي تنشط في بيع السلاح بمليارات الدولارات للدول الخليجية، خصوصاً السعودية وقطر، كخطوة لتمريرها للمعارضة السورية، لتستخدمها في مواصة القتال وابقاء الحرب مستعرة.
حرب أم «شوربة خضرة»؟
ما يجري حالياً على الأرض السورية، ليس حرباً ذات أهداف جوهرية واضحة ومبرّرة، بل هو «شوربة خضرة» فيها البطاطا والبازيلا والبندورة وكلّ الخضروات المنوعة. هي حرب عمّقت الخلافات بين شعوب المنطقة، وعززت الخلافات الطائفية، عوضاً عن استئصالها. كما تحوّلت الأراضي السورية نتيجة لها، إلى ماكينة لتفريخ الإرهابيين كما يفرّخ الدجاج بيضه. وكان من أهمّ إفرازاتها الواضحة، ظهور «الدولة الإسلامية» التي ألحقت الضرر بالأبرياء، وعززت آلة القتل والتفجير وقطع الرؤوس، من قبل مقاتلين جاؤوا من أصقاع الأرض… من الشيشان والأفغان والمغول وغيرهم من شعوب الأرض، من أقصاه إلى أقصاه. وبالتالي، لم يعد لها هوية واضحة، بل تحوّلت فعلاً إلى «شوربة خضرة» حقيقية أعدّها الأميركيون لشعوب المنطقة، وأثخنوها بتوابل من الدماء البريئة لتحقيق أغراض خاصة بهم، وليس لها علاقة بالسعودية أو قطر أو بدول الخليج، أو بأيّ من شعوب هذه المنطقة.
مستشار في المركز الأوروبي العربي لمكافحة الارهاب – برلين.
عضو في مركز الحوار العربي الأميركي – واشنطن.