التفاهم صفقة على حساب سورية أم انتصار لها؟
ناصر قنديل
– يطرح التفاهم الروسي الأميركي على ضفتي أصدقاء سورية وأعدائها النقاش ذاته، ففي كلّ القوى المنخرطة في الحرب على سورية من دول إقليمية وحركات تحمل لواء المعارضة صوت مرتفع لوصف التفاهم بالصفقة على حسابهم، ويستخدمون الأوصاف ذاتها للخيانة الأميركية التي استعملوها من قبل عند التفاهم على الملف النووي الإيراني. وعلى ضفة أصدقاء سورية استعادة لهدنة شهر شباط الماضي وما شهدته من تحضيرات من قبل تركيا والسعودية والجماعات المسلحة في شمال سورية، مهّدت لهجوم معاكس سمح باستعادة تلال العيس وخلصة وخان طومان، رغم أنّ سورية وحلفاءها يومها استغلوا الهدنة لتحرير تدمر، ليقولوا مرة أخرى يخدع الأميركيون الروس ونحن في ذروة الإنجاز العسكري لتأمين وقف للنار يمنح الجماعات المسلحة فرصة التقاط الأنفاس، ويصل بعضهم للقول إنه ربما حدثت صفقة تلقى فيها الروس أثماناً في غير مكان لقاء تنازلات قدّموها من جيب سورية وعلى حسابها، فما هو التوصيف الحقيقي للتفاهم بموازين الحرب التي تشهدها سورية؟
– العمل السياسي الذي يواكب الحروب هو محاولة لتثمير موازين القوى في معادلات سياسية، لكنها معادلات تحاول أن تجد صياغة بتعابير لا تشبه مفردات خطاب الحرب فيطغى عليها الحديث عن البعد الإنساني وعن وقف النار وعن الذهاب للحلّ السياسي بعيداً عن الحرب. وهي معادلات يصنعها الأعداء أنفسهم الذين وجدوا أنفسهم على طاولة المفاوضات يمارسون الحرب بأشكال أخرى فليبسون قفازات حريرية بدلاً من حمل السيوف الحديدية، ويبحثون لخلاصة التفاوض عن لغة تقدّمهم كحلفاء وأصدقاء، وهم يعلمون أنهم يمارسون العداوة بطريقة مختلفة تختبئ فيها الخناجر وراء الظهور، ويعلمون أنّ أحدهم خدع الآخر برضاه، لأنه لم يبق له في الميدان فرصة الفوز، ولا فرصة الخوض في اختبار جديد، وبهذا ليس في الحديث عن الخدعة مجانبة للحقيقة، لكن السؤال مَن خدع مَن، ولكن كيف فعل ذلك برضاه ومعرفته الكاملة؟
– جوهر الحرب في سورية هو مستقبل النظام السياسي الحاكم بسطوته وجيشه ورئيسه، بين خياري الإضعاف تمهيداً للإسقاط أو التمكين تمهيداً للتعويم، وجوهر الدور الروسي منذ الفيتو الشهير قبل أربع سنوات ومروراً بالتصدي لمشروع الحرب يوم جاءت الأساطيل الأميركية قبل ثلاث سنوات، حتى التموضع العسكري في عاصفة السوخوي قبل عام، هو التمكين تمهيداً للتعويم، وجوهر الدور الأميركي مرة بالوضوح ومرة بالغموض المقصود، ومرة بالانخراط ومرات بالانكفاء، هو الإضعاف تمهيداً للإسقاط، ومحور التجاذب الروسي الأميركي منذ أربع سنوات واضح، وهو أين تقع جبهة النصرة من هذه الحرب، وأين يقع التعامل معها في قلب الحرب على الإرهاب. والنصرة هي نخبة المعارضة السورية المسلحة والعقائدية، فهي تشكل ثلاثة أرباع الجسم المسلح الذي يقاتل الجيش السوري، وتستقطب الغالبية الكاسحة من السوريين الذين يحلمون بإسقاط النظام، ويشكلون ثلاثة أرباع جسمها العسكري، الذي يتشكل ربعه من غير السوريين الآتين من متطوّعي تنظيم القاعدة الذي تنتسب النصرة إلى فكره الوهابي التكفيري.
– لا يحقق الإحراج المنطقي أيّ انتصار تفاوضي إلا عندما يدعمه إحراج ميداني يضيّق الخيارات على الخصم المفاوض، لذلك لم ينجح كلّ الكلام عن دور الإرهاب في سورية بإحراج أميركا التي تعلم أنها وحلفاءها استنجدوا بتنظيم القاعدة لتحقيق هدف فشلوا بتحقيقه منفردين، وهو إسقاط النظام، ووفروا التغطية واخترعوا الذرائع لتبرير التغاضي عن جموع الإرهابيين الوافدة إلى سورية، فبقيت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، تقول إنّ حضور متطوّعي القاعدة لا يعني أنّ الخطر في سورية يأتي من الإرهاب بل من «وحشية النظام» التي استجلبت هؤلاء للقتال بسببها، ولذلك فوجود الإرهاب هو من الأعراض الجانبية المصاحبة للأزمة في سورية وليست قضيتها، وجوهر الأزمة وفقاً لكلينتون يبقى ببقاء النظام ويحلّ بإسقاطه، ولم يعترف الأميركيون بالإرهاب عنواناً لما يجري في سورية إلا عندما فشلوا وتيقنوا من الفشل، في إسقاط النظام، وبدأوا يبحثون عن حلول تفاوضية كان عنوانها ما قاله وزير الخارجية جون كيري مجدداً، بأنّ تنحّي الرئيس السوري وحده يتكفل بطمأنة الشرائح السورية التي تقاتل جنباً إلى جنب مع جبهة النصرة كفرع لتنظيم القاعدة، والفرز بين الجهتين لحصر القتال بالإرهاب يتوقف على هذا التنحّي، ويلوّحون من موقع إعلانهم للحرب على داعش، بما بقي يردّده مدير المخابرات الأميركية السابق ديفيد بتريوس عن كون الانتصار على داعش يتوقف على التحالف مع النصرة، وبعدما فشل الأميركيون في اختباراتهم ورهاناتهم، وظهرت اندفاعات عسكرية وسياسية حازمة وحاسمة لقوى الحلف الروسي الإيراني السوري، بمواصلة الحسم مع النصرة ومَن معها، لطالما رفضت واشنطن القيام بدورها بعزل مَن تسمّيهم فصائل معارضة معتدلة عن النصرة، وطالما أنّ تركيا التائهة بعد الانقلاب الفاشل وتعاني أزمة ثقة في علاقتها بواشنطن في ضوء الاستخدام الاستبدالي المثير للريبة لعلاقتها بالميليشيات التركية، صارت شريكاً افتراضياً بديلاً للانخراط مع واشنطن في اجتذاب مَن أمكن مِن المعارضين إلى خارج مناطق سيطرة النصرة، فعاد الأميركي للتفاوض من موقع مختلف.
– الأميركيون يعرفون أنهم عندما يوقعون أخيراً وبعد طول مكابرة وممانعة على اتفاق يقضي باستهداف النصرة إنما يقبلون الخدعة الروسية، فالنصرة ليست وجوداً مكتشفاً في سورية، إنها قلب المعارضة وعصبها الذي رعته واشنطن، وراهنت عليه، وموسكو تقبل الخدعة الأميركية التي تقول إنّ هناك معارضة معتدلة، وهي تعلم أنّ الفصائل المسلحة كلها من فكر تنظيم القاعدة، والباقي كما وصفه الرئيس الأميركي باراك أوباما «فانتازيا»، فترتضي تحييد من تستطيع واشنطن إقناعهم بالابتعاد عن النصرة وهم بعض منها وتقبل بتسميتهم بالمعارضة المعتدلة. وهنا يقع الاتفاق، بمقايضة عنوانها موافقة أميركية على إنهاء الخطر الرئيسي على النظام الذي تمثله النصرة، مقابل فتح الباب لمن يرغب الدخول بتسوية سياسية. وهذا هو تماماً ما قامت عليه مبادرة الرئيس السوري قبل ثلاث سنوات ونصف السنة مطلع العام 2013، والتي عرضت على الجماعات المسلحة ما لم يعرضه التفاهم الروسي الأميركي، مقابل محورية الحرب على النصرة كعنوان لإرهاب تكفيري، يهدّد وحدة النسيج الوطني لسورية ويأخذها إلى التفتيت.
– في مفاوضات إنهاء حرب تموز عام 2006 قدّمت المقاومة للمفاوض الرئيس نبيه بري آنذاك، وهو المكان الذي يشغله وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في حالة سورية، ما يشبه اتفاق تسليم السلاح الكيميائي السوري الذي شكل نهاية فرصة الحرب الوحيدة على سورية، أيّ عرض قبول خدعة أنّ أميركا لم تهزم بسحب أساطيلها مقابل خدعة أنّ تسليم السلاح الكيميائي السوري إنجاز نوعي وتاريخي، وفي نهاية حرب تموز قبول خدعة أنّ نشر الجيش واليونيفيل يعنيان تقييداً للمقاومة مقابل خدعة أنّ السلاح باق ولن يمسّ، واليوم مقايضة شبيهة بالاثنتين، خدعة شراكة أميركية بالحرب على النصرة ولو معنوياً وإعلامياً، مقابل خدعة حمايتها لمن تسمّيهم معارضة معتدلة. ويكفي سماع ما يقوله قادة المعارضة وجماعاتها المسلحة حتى نفهم مكان التفاهم من الحرب. فيقول ميشيل كيلو التفاهم يخيّرنا بين ان نقول نعم ونخسر أو نقول لا ونخسر، فقول النعم يعني القبول ضمناً بسحق أكبر قوة تقاتل النظام وداعش ولا عمليات خارجية لها، وفقاً لتوصيف الأميركيين السابق للمعارضة التي يريدون التعاون معها، وهذه ضربة لن تقوم بعدها للمعارضة المسلحة قيامة، ولا يبدو سهلاً تطبيق موجباتها بالفك المستحيل ميدانياً وإنْ قلنا لا فسنسحق تحت شعار أننا كلنا إرهاب.
– يخطئ مَن يقيس التفاهم بأمتار المسافة بين الحواجز في الكاستيلو، لأنّ الستاتيكو الحلبي سيكون مختلاً لحساب الجيش والحلفاء بخطوط إمدادهم المفتوحة مقابل حصر الإمداد لشرق حلب بمواد إغاثية، وحربهم التي تعصف في الأرياف على النصرة وتتقدّم وتتوسع في محافظات حماة وحلب وإدلب وصولاً إلى فتح الطريق الدولي بين دمشق والحدود التركية، ويخطئ مَن يقيس التفاهم بقياس الهدنة السابقة، فالأمر أكبر من كليهما، إنه ثمرة تراكم المفاوضات والاختبارات والمواجهات طوال الأعوام السابقة. فالنصرة التي حيّدت في الهدنة بداعي اختبائها تحت أعلام المعارضة، وحيّدت من الغارات الروسية نفسها، بينما النصرة اليوم هي هدف للحرب الروسية الأميركية، وحدود تركيا مقطوعة عن أحياء حلب من الكاستيلو، عدا عن شراكة تركيا بدور مختلف هذه المرة عنوانه هاجسها الكردي وما يستدعيه من حرص على التفاهم مع روسيا، وليس رهانها على النصرة وما سبّبه من تصادم مع موسكو، لتصير المعادلة الراهنة تجسيداً لعبقرية الحرب، قضم القوة المركزية للعدو برضا وشراكة وتغطية حلفائه مع ابتسامة صفراء تدّعي البراءة. قبل الاستدارة للسؤال عن مصير الباقي الذي يقول من اليوم أُكلنا جميعاً يوم أُكل الثور الأبيض، والخيارات محدودة، مصير النصرة أو تسويات على طريقة داريا… أو الجنسية التي يتبرّع بها أردوغان للراغبين، أو تجربة الحظ في صناديق اقتراع يريد الكثيرون تجاهل حقيقة أنّ تجاهل المعارضة للدعوة إلى الاحتكام لها بإشراف أممي هي دعوة كانت دائماً متاحة لها، كانت الفضيحة التي تؤكد معرفة هذه المعارضة ومعرفة حلفائها المسبقة بحجم تمثيلها الضحل، وبأكذوبة أنها تمثل الشعب السوري.
– إذا كان التفاهم نقلة نوعية لتمكين النظام تمهيداً لتعويمه الذي تحمله محادثات سياسية لتشكيل حكومة في ظلّ الرئاسة السورية، وليس نقلة باتجاه إضعافه تمهيداً لإسقاطه عبر تعويم خصمه الأول الذي تمثله النصرة، وعنوان سياسي للإسقاط هو تنحّي الرئيس كشرط للحلّ السياسي، فإنّ القول بنصر سياسي لسورية وإنجاز للمفاوض الروسي، كما كانت مفاوضة بري في حرب تموز ومفاوضة لافروف في الحلّ السياسي للسلاح الكيميائي، استنتاجاً لا يجافي الحقيقة.