تفاهم فيينا وتفاهم جنيف: مسارات لا قرارات وإجراءات
ناصر قنديل
– يقع الكثيرون في مناقشة التفاهم الروسي الأميركي بما سبق أن وقعوا فيه أو وقع غيرهم فيه أثناء مناقشة التفاهم حول الملف النووي الإيراني، فيبنون على التفاصيل الإجرائية والتجاذبات المحيطة بها استنتاجات متسرّعة توحي بهشاشة التفاهمات، وتوقّع قرب سقوطها، كما كانت تقديراتهم للمسارات التفاوضية التي أدّت إلى تفاهم فيينا حول الملف النووي الإيراني وتفاهم جنيف حول الحرب في سورية وما يرافقها من مواقف مشحونة وتصادمية تصل إلى استخلاص صعوبة بل استحالة ولادة التفاهمين، بينما أظهرت الوقائع بعد كلّ المواقف المشحونة أنّ التفاهم الأول ولد في فيينا، رغم كلّ الخلافات التي أحاطت به لاحقاً أثناء التطبيق ولا تزال، وها هو التفاهم الثاني يولد في جنيف محاطاً بخلافات عميقة ويومية في التطبيق ولكنه يصمد ويتقدّم.
– التدقيق في سياق ولادة التفاهمين سيوصل حكماً إلى فهم أنّ كليهما وليد المعادلة ذاتها، وسباق الزمن ذاته، والتتابع بينهما كان تناوبياً، فلولا تمسك إيران بحلفها مع سورية لوقع التفاهم عام 2012 بعد جولة التفاوض في بغداد، ولولا فشل الحملة الحربية التي جرّدت عبرها الأساطيل الأميركية نحو سورية وعادت دون حرب مرتضية الحلّ السياسي للسلاح الكيميائي السوري لما انطلقت مجدّداً جولات التفاوض حول الملف النووي الإيراني التي انتهت بالتوقيع، ولولا التوقيع على التفاهم على الملف النووي الإيراني، لما أمكن أن تصير إيران شريكاً تفاوضياً عبر مجموعة فيينا الخاصة بالحرب في سورية، ولو كان ثمة أمل أميركي بظهور تغييرات في موازين الحرب في سورية لصالحها لما وقعت التفاهم في حينه وانتظرت حدوثها، سواء قبل انتخابات الرئاسة الأميركية أو بعدها، فيكفي أنه تفاهم حول قضية بهذا الحجم ومع دولة بهذا الحجم ويتسبّب بالأذى لحليفين محورين لواشنطن كالسعودية و»إسرائيل» إلى هذه الدرجة، كي لا يستخفّ الأميركيون بقبول توقيع التفاهم ولديهم أوراق احتياط أو توقعات يمكن لاختبارها أن يوفر ظروفاً أفضل.
– الواضح أنّ الروزنامة الأميركية المحكومة بسقف زمني لاستراتيجيتها العسكرية في آسيا، يتحكّم بمستقبل علاقتها بعمالقة آسيا الثلاثة روسيا والصين وإيران، هو موعد انسحابها من أفغانستان مطلع العام المقبل، والواضح أنّ إنجاز الانسحاب يصير قمة الغباء عندما يقدّم كهدية لهذا الثلاثي المتربّص بالبرّ الأفغاني كصلة وصل برية يفتقدها منذ قيام الثورة في إيران، ليتمّ عبره ربط سكك الحديد ونقل الأفراد والبضائع وأنواع السلاح وربما القوات العسكرية، ما لم يسبق هذا الانسحاب تفاهم لم يتمّ بعد، وسيتمّ على إيقاع تفاهمَي فيينا وجنيف، ومعهما مينسك الخاص بأوكرانيا، ولاحقاً مسقط أو الكويت الخاص باليمن، وربما يكون في نيويورك، مع إطلاق سلة الحلول للأزمات الإقليمية في آسيا بما يطلق يد الحلف الثلاثي في تثبيت مراكز القوة التي دافع عنها بشراسة وفشلت الحروب بإسقاطها، مقابل ضوابط تحكم حدود استثمار الصين وروسيا للبرّ الأفغاني، تتضمّن كميات النفط والغاز المسموح وصولها إلى الصين، وتلك المسموح للعراق وإيران إيصالها للمتوسط، وسرعة القطارات التي سيتمّ تشغيلها بين الصين وإيران وهل ستصل إلى بغداد ودمشق، والبحر المتوسط، وكم سيكون سقف البضائع المورّدة سنوياً عبرها، وبأيّ إيقاع زمني لرحلاتها، وكم ستكون حمولتها من الركاب سنوياً نحو أوروبا، ونوعية الخطوط الحديدية، وهل ستكون مهيأة لنقل سلاح ثقيل من مدرّعات ومدفعيات وشبكات صواريخ، ومن أيّ أصناف ولأيّ أهداف، ومن يتابع هذا الملف يعلم أنه منعاً لوصول الصين وروسيا وإيران إلى المتوسط عبر سورية، كان أحد أهمّ أسباب الحرب على سورية، وسيعلم أنّ المفاوضات جارية حول هذا الملف وأن آخر جولات التفاوض فشلت عشية قمة العشرين في بكين، وشاركت فيها أميركا والصين وباكستان وأفغانستان، ويتوقع أن تنضمّ إيران وروسيا إلى الجولة المقبلة.
– هذا المسار الحاكم الذي شكّل محور ولايتَيْ الرئيس الأميركي باراك أوباما، وتتضمّن تفويضاً له باختبار كلّ أشكال الحروب الناعمة لتحسين شروط التفاوض، وضمن له التجديد لولاية ثانية بدعم جنرالات الجيوش الأميركية التي وقفت خلف وصوله إلى البيت الأبيض، تضمّن قراراً بإنهاء الوجود العسكري في العراق وأفغانستان مع نهاية الولايتين كسقف أعلى، وهذا ما حدّد لشهر آب من العام الحالي مكاناً خاصاً في السياسات الأميركية، وجعله موعداً يظهر مباشرة في القرارات الخاصة بسورية لإتاحة شهور لتطبيق التفاهمات، هي ما تبقى من الولاية الثانية لأوباما، وجعل ذلك يظهر بصورة غير مباشرة في مهل التفاوض حول الملف النووي الإيراني، التي مدّدت سبعة شهور حتى نهاية حزيران العام الماضي لمنح الوقت الكافي لبدء التطبيق والانطلاق نحو التفاوض حول سورية ومنح هذا التفاوض سنة تنتهي مع آخر آب وقد انتهت. ورغم نهاية حزيران العام الماضي وآب هذا العام، فلم تسقط فرص التفاهمات، بل تأخرت في تفاهم فيينا أربعة عشر يوماً فتمّ توقيع التفاهم النووي في 14 تموز 2015 وفي تفاهم حنيف تسعة أيام فقط فتمّ التوقيع على تفاهم جنيف حول سورية في 9 أيلول 2016.
– أثناء التفاوض وبعد التوقيع بقي الأميركيون والإيرانيون أعداء وبقيت الثقة معدومة بينهما، وبقيت الحرب الباردة تحكم العلاقة، ومشاريع التلاعب في تطبيق الالتزامات موضع شكوى متبادلة. ويبدو الأمر نفسه مكرّراً مع التفاهم حول الحرب السورية، لكن الجوهري لا يمسّ، وهو أن لا عودة إلى الوراء، فإيران دولة نووية معترف بها تعيش في قلب العلاقات الدولية وأسواق النفط والاستثمارات، وسورية دولة موحدة، ليست موضوع تناهُش من الجوار، ولا مجالاً حيوياً لسياسات الآخرين، والقضاء على النفايات السامة التي جلبها الأميركي لإسقاط سورية سيتمّ بتعاون أميركي مع روسيا وسورية وإيران، ومن ضمنه إعادة تدوير ما يمكن تدويره وما تستطيع الدولة السورية استيعابه، ولأنّ تركيا من الدول الباقية على مسرح اللاعبين ضمنت لها مخارج جانبية تحفظ أدواراً يجري البحث بضوابطها وتفاصيلها، ولأنّ السعودية و»إسرائيل» كيانان في دائرة الخطر وخارج التفاهمات تقدّم لهما واشنطن بوالص تأمين دفاعية وتسليحية وتتحوّلان مجرد مستعمرات أميركية تحت الحماية والوصاية، بما في ذلك حق واشنطن بجلب الرياض إلى بيت الطاعة نحو تسوية يمنية قاسية، وجلب بيت العنكبوت إلى تسوية فلسطينية مؤلمة، لأنّ ضمن بروتوكول الحماية الأميركية حماية الكيانين من حماقات حكامهما.