ماذا تخشى واشنطن في نشر التفاهم مع موسكو؟
ناصر قنديل
– تبدو موسكو ممسكة باليد الأميركية التي توجع كلما لوّحت بنشر التفاهمات الخاصة بينهما حول سورية، بمثل ما تبدو واشنطن مستعجلة للضغط على موسكو ودمشق في القضية الإنسانية لتحصيل مكاسب ميدانية مثل سحب الجيش السوري من الكاستيلو، والقول للجماعات المسلحة لقد حققنا لكم في السياسة ما عجزتم عن تحقيقه في الميدان، فاتبعونا تصلوا إلى برّ الأمان. وتحاول واشنطن إقناع موسكو بأنّ هذا هو الطريق الذي يسهّل تطبيق سائر الالتزامات الأميركية، خصوصاً ما يتصل بالجهود للفصل بين مَن تسمّيهم واشنطن بالمعارضة المعتدلة وتسمّيهم موسكو بالمسلحين الخاضعين لسيطرة واشنطن، من جهة، وجبهة النصرة من جهة أخرى، فجوهر التجاذب الدائر الآن هو السير بتطبيق الالتزامات بالتزامن كما تريد موسكو أو تقديم مكاسب تحت العنوان الإنساني تتباهى بها واشنطن أولاً تحت شعار مساعدتها على تطبيق التزاماتها.
– تتشدّد موسكو ودمشق هذه المرة في التطبيق المتزامن للالتزامات، فمقابل المطالبة بسحب الجيش السوري لحاجز الكاستيلو من طريق المساعدات تحت شعار عزل الإنساني عن السياسة طالبت دمشق بتزامن ذلك مع سحب كلّ وجود مسلح من طريق المساعدات في مرورها وصولاً لتوزيعها، وفتحت الباب لأهالي بلدتي الفوعة وكفريا المحاصرتين للتظاهر على الكاستيلو واشتراطهم للسماح بمرور المساعدات نحو شرق حلب بنيل البلدتين المحاصرتين نصيبها من المساعدات تحت الشعار ذاته، فصل الإنساني عن السياسي. وفيما تقول واشنطن لن يتمّ التعاون العسكري ضدّ النصرة ما لم تدخل المساعدات إلى شرق حلب، تقول موسكو إنّ تأخر دخول المساعدات ناتج عن تأخر انسحاب المسلحين من المواقع المقابلة للجيش السوري في الكاستيلو ومن طريق سير المساعدات، وانّ تأخر التطبيق العسكري للتفاهم عائد لعدم قيام واشنطن بإنجاز ما هو مطلوب منها، بتقديم خرائط صالحة للعمل العسكري تظهر الفصل بين مواقع من تسمّيهم واشنطن بالمعارضة المعتدلة في مناطق مستقلة، وبين مواقع سيطرة جبهة النصرة في مناطق مقابلة منفصلة عنها.
– يكاد الأسبوع الأول من التفاهم أن ينتهي، ويحلّ موعد البدء بتطبيق الشق العسكري بالتعاون في توجيه ضربات روسية أميركية للنصرة وداعش، وما طبّق من التفاهم هو الهدنة، وعشية نهاية الأسبوع سينعقد مجلس الأمن لمناقشة التفاهم الروسي الأميركي، والاستعداد لإصدار قرار بتطبيق بنوده، ربما يصدر مع موعد البدء بتطبيق المرحلة العسكرية، ويكون موعداً متزامناً لتطبيق الشق الخاص بالمساعدات، فتسير الثلاثية المتزامنة، الشرعنة الدولية للتفاهم ودخول المساعدات وبدء التعاون العسكري، الذي يعقد لأجله الرئيس الأميركي باراك أوباما اجتماعاً موسعاً يضمّ وزيري خارجيته جون كيري ودفاعه آشتون كارتر ومستشاري الأمن القومي لبرمجة تطبيق الالتزامات الأميركية في التفاهم، وإغلاق باب الاجتهادات المتباينة حول هذا التفاهم.
– يحصل كلّ ذلك وواشنطن لا تريد نشر التفاهم قبل سلوكه طريق التنفيذ، وخصوصاً ملاحقه التنفيذية، وأهمّها الملحق الأمني والملحق السياسي اللذين تمهّد لهما بالشق الخاص بالمساعدات وبالتعاون العسكري المبدئي والبطيء، ريثما تكتمل تحضيراتها مع الحلفاء من حكومات وتنظيمات وتشكيلات سياسية ومسلحة تعمل معها مباشرة أو مع حلفائها تحت مسمّيات المعارضة، للخوض في الملفين الأمني والسياسي. ففي الملف الأمني يتضمّن التفاهم تفاصيل وتحقيقات عن جماعات من المعارضة تفرض تصنيفها على لوائح الإرهاب ولا تريد واشنطن أن يتسرّب هذا الأمر قبل أن تنضج ظروف مناسبة لتلقيه. وفي الملف السياسي يدعو التفاهم لمحادثات جنيف الجديدة تحت شعار مرحلة اختبارية للتعاون بين الحكومة السورية والمعارضة من ضمن حكومة موحدة في ظلّ الرئيس بشار الأسد، طلبت واشنطن من المفاوضين باسم المعارضة التمهيد له بالدعوة لمرحلة سمّتها بما قبل الانتقالية، ووفقاً للتفاهم مع تشكيل الحكومة ينتقل التفاوض إلى داخلها، وتقوم المحادثات على كيفية توزيع الصلاحيات في هذه المرحلة بين رئيس الجمهورية والحكومة ورئيس الحكومة، وما قد يستدعيه ذلك من تعديل للدستور، دون الخوض في مستقبل الرئاسة السورية بعد هذه المرحلة، فتبقى المعارضة تقول إنها تريد مرحلة انتقالية بدون الرئيس السوري، بينما يفتح المجال عبر الحكومة الموحدة والدستور الجديد مع تقدّم الحرب على الإرهاب للذهاب إلى صناديق الاقتراع لحسم الأمر ديمقراطياً وبرقابة أممية تضمن أن يقول السوريون مَن وماذا يريدون.
– لا تريد واشنطن أن تصدم المراهنين عليها أنّ التفاهم قد حسم كلّ شيء وانتهى الأمر، وفقاً لمعادلة تدركها ويدركها كلّ الذين يعرفون سورية جيداً سياسياً وعسكرياً، قوامها أنّ تشكيلات المعارضة السياسية، والخارجية خصوصاً، ليست إلا واجهات من شخصيات بلا نفوذ ولا تأثير، وأنّ تشكيلات المعارضة العسكرية ليست إلا امتدادات لدول وأجهزة مخابرات، باستثناء جبهة النصرة التي تضمّ الشرائح الشعبية والمسلحة المناوئة للدولة العلمانية في سورية، وهي القوة التي تمنح الآخرين من عناوين سياسية وعسكرية مبرّر الوجود والارتزاق باسم المعارضة. وهي التي ارتضت لفترة القبول بتصدّر تلك العناوين والرموز للمشهد الإعلامي حتى دقت ساعة الظهور للعلن، والأمر لم يكن تحوّلاً نحو التطرف في مسار ما يسمّونه بالثورة كما يحلو للبعض القول، بل ظهور هذه «الثورة» على حقيقتها كثورة وهابية على نظام علماني حظيت بدعم دولي وإقليمي بما في ذلك النجاح بالتجرّؤ على التطبيع مع «إسرائيل» طمعاً بنيل فرص الفوز، وأنّ شطب النصرة يعني ما قاله أحد قادة الائتلاف «نهاية الثورة السورية»، وهذا الذي صار كأساً مرة لا بدّ لواشنطن من تجرّعها للبقاء على مائدة البرّ الآسيوي التي ستخلي الرقعة الاستراتيجية منه في أفغانستان خلال أشهر، سيفرض سقفاً أمنياً يقتضي شطب أخوات النصرة من تشكيلات وهابية معها، وسقفاً سياسياً يقتضي البحث عن مخارج شكلية لرموز المعارضة السياسية ومشغليها، تحت سقف الدولة السورية ورئيسها وجيشها.
– رغم كلّ التعقيدات والمصاعب والمتاعب وعدم الثقة، سيقول أوباما عن التفاهم لمساعديه ما قاله يوم توقيع التفاهم على الملف النووي الإيراني، لي مثلكم ملاحظات كثيرة على التفاهم، لكن الأمور في التفاوض تصل إلى نقطة عليك أن تأخذ الحصيلة أو ترفضها، وهذا أفضل ما تمكنّا من الوصول إليه، فمن لديه بديل أفضل فليقدمه.