بوتين الذي غيّر العالم خلال سنة
ناصر قنديل
– في أيام متقاربة تمرّ ذكرى خمس عشرة سنة على الحضور العسكري الأميركي المباشر في أفغانستان، في أعقاب هجمة إرهابية استهدفت نيويورك وواشنطن وحصدت آلاف القتلى والمصابين في الحادي عشر من أيلول، ويمرّ عام كامل على الحضور العسكري الروسي المباشر في سورية تحت العنوان ذاته، مكافحة الإرهاب. وبالنظر للمقدّمات ومقارنتها، يبدو واضحاً الفارق بين حجم الإجماع والتضامن اللذين أحاطا بالخطوة الأميركية نحو أفغانستان، وحجم الانقسام والتشكيك اللذين رافقا الخطوة الروسية ولا يزالان.
– مع نهاية العام الخامس عشر في أفغانستان تعترف واشنطن بالفشل، رغم المكابرات المتعدّدة والحديث عن أوهام إنجازات. فالعنوان كان نحو عالم أشدّ أمناً وأقلّ تعرّضاً لمخاطر الإرهاب، والتقارير الأميركية تجمع على حقيقة أنّ العالم في أشدّ لحظاته تعرّضاً للخطر، وأنّ الإرهاب قد توسّع وانتشر وتضاعف حضوره وتجذّر بالقياس لما كان عليه عشية الغزو الأميركي لأفغانستان التي لم تكن دولة أعلنت الحرب على أميركا، ولا حكومة استدعت دعماً أميركياً لمواجهة خطر خارجي أو تغلغل إرهابي، بل بقعة جغرافية قالت واشنطن إنها المكان الذي يشكل بؤرة الإرهاب في العالم، وهي تعلم أنها البؤرة التي قامت هي بإنشائها وتسليمها لجماعات تنظيم القاعدة أملاً بهزيمة الجيش السوفياتي الذي دخل أفغانستان عام 1980، لكن بعد الحرب الأميركية لم يعد ثمة بؤرة واحدة. فالاحتلال الأميركي للعراق جعله بؤرة ثانية، والتدخل الأميركي في سورية وقيادة الحرب لإسقاط نظام الحكم فيها جعلها بؤرة ثالثة.
– دخلت روسيا إلى سورية بعلاقة تعاون علنية ومقوننة وشرعية مع الحكومة السورية، وتحت عنوان واضح هو الحرب على الإرهاب، الذي قامت أميركا بتشكيل تحالف دولي لقتاله بعد الإعلان عن نشوء تنظيم داعش وسيطرته على أجزاء من سورية والعراق، وضمّت إليه عشرات الدول الغربية والخليجية، وبشر الرئيس الأميركي العالم بأنّ حربه على داعش ستستغرق سنوات طوالاً، ورغم ذلك استثنى من التحالف روسيا وإيران والدولة السورية التي تقاتل داعش وأخواتها، وتدور الحرب على أراضيها وفي أجوائها، بعد إنكار أميركي طويل لوجود الإرهاب أو خطر الإرهاب في سورية.
– يعرف الأميركيون ويعترفون في كتاباتهم أنّ الإرهاب ككلّ أجيال الفيروسات طوّر نفسه ونظريته. بين المنطلقات التقليدية لتنظيم أممي على غرار داعش، يحمل فكر واستراتيجية القاعدة كما كانت، وجيل جديد مهجّن يعمل لتولي الحكم في بلاد منشئه وتحويلها قاعدة ارتكاز في المحيط تمهيداً لإعلان أمميته لاعتقاده أنّ موازين القوى التي تحكم العلاقات الدولية أظهرت لا جدوى التسرّع بحرب على نطاق عالمي، قبل بناء المرتكز المحلي. وهو بالمناسبة نقاش عرفته كلّ الحركات التي تتبنّى نظريات أممية، فأولوية الأممي على الوطني والعكس، كانت محور الانشقاقات في الحركة الشيوعية، ورغم الإدراك الأميركي لكون الفارق تكتيكياً وليس استراتيجياً بين داعش والنصرة، على هذا الأساس قرّرت بعد دورها في إطلاق كليهما، بنظرية ذات أولوية هي التخلص من الدولة السورية ورئيسها، أن تتعاون من تحت الطاولة مع النصرة بواسطة الحلفاء التركي والسعودي والقطري و«الإسرائيلي»، وأن تحوّل الحرب على داعش إلى احتواء مزدوج، تضربها كلما تمدّدت وتمدّها بأسباب القوة كلما تراجعت وضعفت، كمثل الغارة الأخيرة على الجيش السوري في دير الزور.
– أدركت موسكو أنّ ترك قيادة الحرب على الإرهاب الذي بات خطراً عالمياً داهماً، ومسألة أمن قومي روسي، لواشنطن وحدها سيؤدّي إلى كارثة على الطريقة العراقية والأفغانية، وأنّ ترك مصير سورية تقاتل وحدها ثنائية الإرهاب العالمي بكلّ ما معه من دعم مالي وتسليحي، بما تمثله من موقع متقدّم لمفهوم الدولة المستقلة، ولما تحتله في الجغرافيا السياسية للعالم، ودورها المفصلي في توازنات المنطقة، يعنيان معاً أنّ على روسيا أن تقاتل على أبواب موسكو، الهيمنة الأميركية من جهة والإرهاب من جهة أخرى. لكن موسكو تدرك مخاطر التحرك نحو سورية وتعرف ما ينتظرها وهي تدخل عش دبابير، ووكر عقارب، ففي سورية عليها أن تتوقّع مواجهة ضروساً مع المال السعودي والمكر التركي والوهابية التكفيرية، والتآمر الأميركي، والشماتة الأوروبية. وهكذا كانت حرب الأسعار السعودية في سوق النفط تستهدفها، وكان إسقاط طائرتها من قبل سلاح الجو التركي، وكانت التهديدات الإرهابية لأمنها، والتصعيد في حرب أوكرانيا بقرار أوروبي ضدها، والعقوبات الأميركية بانتظارها.
– في مثل هذا اليوم قبل عام اتخذ الرئيس الروسي ومعه القيادة الروسية قراراً تاريخياً شجاعاً بحجم القرار بقتال النازية في الحرب العالمية الثانية ومطاردتها حتى دخول الجيش الأحمر السوفياتي إلى برلين، قرار دخول الحرب على الإرهاب في سورية هو قرار حماية الأمن والسلم الدوليين، بما تحمل الكلمة من أبعاد ومعانٍ، ومخاطرة محسوبة ومدروسة بحكمة وخبرة قيادة تاريخية، قرأت معنى انكفاء الأساطيل الأميركية التي جاءت للحرب على سورية قبل ثلاثة أعوام، ومعنى بلوغ خط التفاهم على الملف النووي الإيراني، من علامات عجز وشيخوخة في حال العجوز الشمطاء التي تحكم العالم من واشنطن، فأقدمت ولم تتردد.
– بعد عام تقول الوقائع إن موسكو روّضت أنقرة، وإن السعودية وقعت في حبائل حروب الأسعار وتقارب الإفلاس، وهي تستنجد بموسكو وطهران لتعويم وضعها في سوق النفط اليوم، ولا تسمع بعد القانون الأميركي الذي يستهدف ودائعها إلا صوت موسكو يتضامن. وها هي واشنطن رغم كل الصراخ وقعت تفاهماً مع موسكو ينهي الجدل عن إرهاب حميد وإرهاب خبيث ويساوي رغماً عن عواطف واشنطن المنحازة لجبهة النصرة، بينها وبين تنظيم داعش، ويعتبرهما هدفاً مشروعاً للحرب على الإرهاب، وهو تفاهم لو بقي حبراً على ورق، كما هو حال القرار الدولي 425 بالنسبة لإلزام «إسرائيل» بالانسحاب من جنوب لبنان، شكل المستند الذي نفذه المقاومون بأيديهم، كما ينفذ الجيش السوري وحلفاؤه بدعم روسي غير محدود مضمون التفاهم الذي تتردد واشنطن في الالتزام بأحكامه.
– بعد عام على قرار موسكو بالدخول على خط الحرب على الإرهاب في سورية يحق لها أن تستعمل، لكن بجدارة، العبارة التي يستعملها الأميركيون بغير وجه حق، فالعالم بات أشدّ أمناً بالتأكيد، وسيكون أشد أمناً مع المسار النوعي للمشاركة الروسية التي تبلغ أبعاداً جديدة في المعركة الحاسمة في حلب التي يدرك العالم أنها مفتاح تغيير وجهة الحرب على الإرهاب.
– شكراً موسكو… شكراً بوتين، فالعالم بات أشد أمناً، لكنه أكثر توازناً أيضاً مع نهاية التفرد الأميركي المتوحش في إدارة شؤون البشرية. والحملات التي تستهدف روسيا ودورها في سورية ليست إلا العلامة على صوابية وفاعلية ما تفعله روسيا.