أميركا عاجزة عن التفاهم مع روسيا لسبب غير سورية
ناصر قنديل
– ظهرت اتفاقية تدوير البلوتونيوم من خلف الستار لتتقدّم المشهد الدولي وتكشف خبايا الخلاف الروسي الأميركي الأشدّ عمقاً من قضايا السياسات الإقليمية، والذي كان محور البحث الحقيقي بين الخبراء الروس والأميركيين في جنيف لأربعة شهور، بينما المراقبون يتساءلون عن ماهية هذا العمل المضني لتفاوض يستدعي آلاف ساعات العمل لعشرات الخبراء، ويتصل برسم خرائط وتحميل أهداف وتلوينها، لتمييزها بين أهداف واجبة التحييد وأهداف مشروعة، ليكشف وزير الدفاع الروسي قبيل انهيار الهدنة في سورية عن أنّ ما تسلّمته موسكو من واشنطن ليس إلا جداول عامة موجودة بتناول الجميع ولا تصلح كأساس للتعاون العسكري المنتظر بين الدولتين الأعظم في العالم.
– الواضح عندما نتحدث عن خبراء عسكريين أنّ الحديث يدور حول خبراء ينتسبون إلى وزارة الدفاع الأميركية، البنتاغون. والمستغرب هنا أن يكون ما يصلون إليه موضوع انتقادات معلنة من البنتاغون. فوزارة الخارجية الأميركية في مفاوضات الخبراء ليست أكثر من راعٍ شريك في خلق مناخات سياسية إيجابية، أما مضامين التفاهمات فيضعها العسكر طالما هي في شؤون عسكرية، ونفهم مع اندلاع أزمة البلوتونيوم، ما الذي كان يجري في جنيف، وما الذي تعثر تطبيقه، وأين تصبّ اعتراضات البنتاغون، وكيف أنّ المواجهة والتعاون في سورية مرآة للقدرة والعجز عن تطبيق تفاهمات جنيف النووية، بما هو أبعد من المسألة السورية، حيث يوضح كلام وزير الخارجية الأميركي جون كيري المسرّب في «نيويورك تايمز»، أنّ البنتاغون ليس من دعاة التدخل العسكري، وأنّ الكونغرس ليس بوارد منح التفويض لهذا التدخل، وأنّ الخارجية هي الجهة الممتعضة من مضمون التفاهم حول سورية، الذي لا يخفي كيري أنه أفضل الممكن، ويقول إنه يعلم أنّ هذا التفاهم لا يتضمّن بالنسبة لمعارضي الرئيس السوري أكثر من فرصة المشاركة في حكومة تحت رئاسته الدستورية، ومنافسته في انتخابات مقبلة بضمانات دولية، ويحسم أن ليس وارداً الحرب على حزب الله، ولا استهداف الجيش السوري.
– في ذروة التصعيد الذي يبدو ظاهرياً حول سورية، وتعليق كلّ بحث ثنائي حول التفاهم من جانب البيت الأبيض، تنشر «واشنطن بوست» فرضية مهاجمة الطائرات الأميركية لوحدات للجيش السوري فيردّ البيت الأبيض فوراً بالقول انّ هذا غير وارد، وتعلن موسكو أنها زوّدت الجيش السوري بشبكات صواريخ «أس 300» فيكتفي الأميركيون برسالة عتب. وفي ذروة التصعيد هل يمكن تخيّل الحديث عن نيات حرب تحتاج أموالاً طائلة لا يوجد من يموّلها بمثل ما يمكن للسعودية أن تفعل، وتقدم واشنطن بكامل مؤسساتها الصانعة للقرار، وبدعم المرشحين المتنافسين على الرئاسة، على تجميد الودائع السعودية، معرّضة حليفها الواقف خلف كلّ تصعيد والمشجع لكلّ تورّط، للوقوع في الإفلاس، ويعلم كلّ المشرّعين الأميركيين وكلّ الساسة أنّ الحديث يدور عن قانون، وكلّ قانون يدخل حيّز التنفيذ ينشئ حقوقاً تصير مطلوبة من الدولة ومالها العام إذا تراجعت الدولة عن هذا القانون أو قامت بتعديله جوهرياً بما يصيب هذه الحقوق، فإذا شرّعت دولة لمنح حق البناء لطابق إضافي لكلّ من يملك مبنى من عشر طوابق وما دون مثلاً، وقرّرت التراجع، يصير لكلّ المستفيدين من هذا الحق مطالبة الدولة بالتعويض عن مقدار يعادل مكاسبهم المفترضة من التشريع الذي منحهم هذا الحق. فكيف عندما يتصل الأمر بحق تقاضٍ يتصل بخسائر مادية وبشرية متشعّبة كما هي حال المتضرّرين من أحداث الحادي عشر من ايلول عام 2001.
– الواضح أنه بالقدر الذي تنكفئ أميركا على ذاتها وتصير أميركية، وليست عالمية، كما يوحي معنى أن يصير المرشح الرئاسي لحزب الحرب الأميركي التقليدي، الحزب الجمهوري، هو دونالد ترامب، الذي يصل حدّ حصر السياسة الخارجية بإعادة النظر بالاتفاقيات التجارية الخارجية بدءاً من اتفاقية «نفتا» مع المكسيك وصولاً للتفاهمات مع اليابان والصين، ويطلب فرض بدل مالي للمواقف السياسية والعسكرية التي تقدّمها واشنطن لحماية حلفائها. وفي المقابل تبدو واشنطن في خط انسحابي من المواجهات، منذ وقعت التفاهم النووي مع إيران، وصارت معادلتها السياسية الخارجية تقوم على توظيف مكانتها في الأسواق المصرفية والعلاقات الدبلوماسية ومجلس الأمن، كحاجة لا غنى عنها لكلّ دولة تريد تطبيع وشرعنة مؤسساتها، وعندها لا بدّ من التفاوض مع واشنطن، فإنْ لم يكن اليوم فغداً، وإذا لم يكن الوضع في سورية مناسباً لجلب الحلفاء إلى التفاهم الموقع مع موسكو فهو ليس قضية أميركا، فسياق الحرب سينتهي إما إلى إقناع الحلفاء، وعندها تعوّم واشنطن التفاهم، أو سينتهي إلى انتصارات للجيش السوري، تستدعي تفاوضاً مع واشنطن لتطبيع وشرعنة وضع الدولة السورية التي ستعود للتفاهم بمن حضر من المعارضة لحكومة وانتخابات، وضمانات تتيح الاعتراف بنتائجها.
– القضية إذن في مكان آخر، ومحورها البنتاغون، وفي البنتاغون يشتغل الخبراء كموظفين عند شركات تصنيع السلاح، وخصوصا تلك التي تبلغ أرقامها المالية مئات مليارات الدولارات سنوياً، والتي تتصل عموماً بالصناعات الفضائية والنووية، وهي ما يسمّى بالسلاح الاستراتيجي، الميدان الذي كان التفاوض حوله في جنيف، وتمّ التوصل لتفاهم مضنٍ بصدده وتهرّبت واشنطن من التنفيذ، بقوة ضغط هذه الشركات، التي عطلت للمرة الثالثة تطبيق اتفاقيات تدوير البلوتونيوم، الأولى عام 2000 والثانية عام 2010 والثالثة عام 2016، ومضمونها التخلص من كمية من البلوتونيوم الجاهز لصناعة الصواريخ النووية يعادل سبعة عشر ألف صاروخ، يرتب عدم تصنيعها وتجهيزها خسائر بمئات مليارات الدولارات، ليقترح البنتاغون التصديق على الاتفاق للمرة الثالثة وترك الجدول الزمني معلقاً. وهنا أهمية كلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، المهمّ التنفيذ في زمن واضح وليس الإعلان عن نيات ستنفذ بعد عشرين سنة أو ثلاثين سنة.
– في ظلّ ركود اقتصادي حاكم وشامل، تصير السياسة الخارجية مرتبطة بتعديل اتفاقيات التجارة الخارجية، وتصير مصادرة أموال الحلفاء ورشوة الرأي العام بها، سياسة داخلية، ويصير إنتاج صواريخ لن تستعمل لكنها ترضي شركات السلاح العملاقة هو السياسة الدفاعية، قد تبدو هذه الصورة الساخرة مبالغة، لكن من يدقق بالانكفاء الأميركي والارتباك الأميركي، والتلاعب بأوراق بهلوانية لصناعة حضور هوليودي في السياسة والأمن والدفاع، سيعرف بعد الولاية الرئاسية الأميركية الجديدة، أنّ أميركا باتت أكثر أميركية، أقلّ عالمية، وأنّ أميركا التي اعتدنا عليها لم تعد موجودة، وأنّ ما سبق وقالته غونداليسا رايس عن انهيار الاتحاد السوفياتي، يصحّ اليوم في الحال الأميركية، «إنّ الإمبراطوريات الكبرى عندما تسقط لا تنبئك بشكل وموعد سقوطها، كما الطوفان والزلزال عندما يأتيان، إنها يقعان وحسب، وهي تسقط وحسب».