الحرب الباردة الجديدة تستعر… فهل يحصل الانفجار الدولي؟
العميد د. أمين محمد حطيط
لم يكن كشف الخديعة الأميركية وإسقاطها من قبل معسكر الدفاع عن سورية نهاية المطاف في الردّ الدفاعي الذي فرضته الظروف المركبة من ميدان معقد وسياسة غربية قائمة على الاحتيال والتلفيق والتزوير. فقد كان على محور الدفاع عن سورية أن يتحسّب لما قد يُقدم عليه الغرب بقيادة أميركية من سياسة انتقام ومحاولة تعويض الخسائر وحرمان سورية من استثمار إنجازاتها الميدانيةـ فالغرب الذي اعتمد استراتيجية الحرب البديلة متكئاً على الإرهاب الذي يمكّنه من السيطرة وإدارة الأزمات التدميرية للمنطقة صعق عندما وجد في المواجهة معسكراً دفاعياً يعرف كيف يواجه الإرهاب ويمنعه من السيطرة ويعرف أيضاً كيف يتفلّت من الخدع والمناورات الاحتيالية.
هنا بدأ الغرب بسياسة التهويل والتلويح بالعقوبات والانتقام، سياسة قادتها أميركا بشكل لا أخلاقي ووقح وكانت تتوخّى منها الضغط على سورية وحلفائها وفي طليعتهم روسيا ل لتراجع أمامها والتسليم لها بما تريد. وبالفعل نزلت أميركا بنفسها الى الميدان مسقطة كلّ الأقنعة معلنة عبر عملياتها الإجرامية في دير الزور ضدّ الجيش العربي السوري، ارتباطها العضوي البنيوي مع داعش واستعدادها لضرب الجيش السوري والانتقال الى مرحلة المواجهة المباشرة معه.
ومرة جديدة تخسر أميركا رهانها إذ إنّ الردّ السوري كان عكس ما توقعت ما اضطرها للتراجع عن رسالة الفجور الإجرامي في دير الزور، فاعتذرت لسورية عن عدوانها، لكنها استمرت في سياسة التهويل والتلويح بتدابير صارمة سياسية وعسكرية واقتصادية ضدّ معسكر الدفاع عن سورية، بخاصة روسيا. ولكن ردود معسكر الدفاع لم تتأخر، فجاءت لتؤكد أنّ هذا المعسكر من الصلابة والثقة بالنفس وإرادة الدفاع عن الذات في مستوى فوق ما تتوقع أميركا وتتصوّر. وهنا ومن أجل التوضيح نذكر ما يلي:
1 ـ استهدفت أميركا مواقع الجيش العربي السوري، فجاء الردّ الروسي بزيادة وتفعيل القدرات القتالية لمنظومة الدفاع الجوي عن سورية لتصل بها إلى مستوى القدرة على إغلاق هذه الأجواء في أيّ لحظة يستوجب الظرف الميداني ذلك. وبدأت بإضافة طائرات قاذفة ومعترضة الى «حميميم» ثم وهنا كانت المفاجأة لأميركا أدخلت روسيا منظومة «أس 300» المتطورة وأضافتها الى منظومة «أس 400» في «حميميم» و«أس 200» في «كويرس»، في مشهد يقول لأميركا إننا بتنا جاهزين للردّ والتعامل مع أيّ حماقة ترتكب من قبلكم ضدّ الحكومة السورية الشرعية وجيشها. وبالنتيجة نرى أنّ أميركا التي لوّحت في لحظة ما بإمكانية حظر الطيران السوري في مناطق سورية معينة وجدت أنّ هذا الحظر لا يمكن أن ينفذ بل قد يكون حظراً سورياً ضدّ طيرانها هي مع حلفائها.
2 ـ حاولت أميركا بشتى الطرق وقف معركة حلب، لأنّ فيها تختصر الأزمة السورية، وكان الردّ من معسكر المقاومة انّ وقف هذه المعركة لن يكون لخدمة العدوان الأميركي، فأما ان يتمّ تنفيذ الاتفاق حول الهدنة برمّته وأما تستمرّ المعركة. ولما ظهر الخداع الأميركي وعطلت الهدنة كان الحلّ جاهزاً بيد معسكر الدفاع، وهو المضيّ قدماً في معركة تحرير الأحياء الشرقية من حلب وفقاً للخطة الموضوعة بإحكام كلي تشارك فيها روسيا بفعالية عبر طيرانها الحربي المتطوّر وقذائفها العالية الدقة. والنتيجة كانت صدمة أميركية لخسارة الرهان أيضاً.
3 ـ لوّحت أميركا وهدّدت ثم قرّرت تعليق الاتفاق مع روسيا حول هدنة في شمال حلب، كما ووقف الاتصالات معها حول سورية، وكانت تظنّ بأنّ روسيا سترتعب وتتراجع أمامها وتسلّم بخديعتها، فكان الردّ الروسي صارماً بدأ بنشر بعض الاتفاق بشكل يفضح أميركا التي التزمت ونكّلت ولم تنفذ، ثم أقدمت روسيا على تعليق معاهدة البلوتونيوم مع أميركا لتشعرها أيضاً بأنها ليست وحدها تعلّق الاتفاقات من جانب واحد، بل هي أيضاً بمقدورها ان تفعل وتملك الشجاعة في ذلك.
4 ـ تظاهرت أميركا بأنها تسعى في حلب لحماية الإنسان وحقن الدماء والإغاثة، في مسعى استعملت فيه مرة أخرى الأمم المتحدة من دي ميستورا إلى بان كي مون إلى آخرين. فردّ معسكر الدفاع عن سورية خاصة سورية وروسيا بتوجيه إنذار إلى المسلحين بأنّ عليهم مغادرة الأحياء الشرقية مع ضمان سلامتهم، والتوقف عن استعمال المدنيين دروعاً بشرية، كما أنّ سورية استمرت في فتح المعابر الخمسة لخروج المدنيين وأيّ مسلح يريد الاستفادة من العفو الرئاسي. أيّ أنّ سلوك روسيا وسورية جاء صارماً برفض التهويل وواضحاً في طرح الحلّ البديل الذي يخدم خطة تحرير حلب.
5 ـ لوّحت أميركا وحلفاؤها بنية لتقييد استعمال حق الفيتو حول سورية في مجلس الأمن، بقصد تعطيل القدرة الروسية على المحافظة على التوازن في هذا المجلس بصدد سورية والعودة بالمجلس الى الحالة التي كان عليها ابان الأحادية القطبية. فكان الردّ الروسي صارماً وقاطعاً في رفض المسعى الغربي، وأظهر مرة أخرى أنّ زمن الهيمنة والاستئثار بقرارات مجلس الأمن واستعماله لخدمة السياسة الاستعمارية والعدوانية الأميركية أمرٌ ولّى ولن يعود.
هذه الجزئيات باتت ترسم مشهداً دولياً جديداً لم تكن أميركا تتوقعه، وكما خسرت «إسرائيل» في العام 2006 قرار الحرب على لبنان وباتت محكومة بمعادلة ردع لم تستطع أن تسقطها رغم مضيّ عشر سنوات على نشوئها، فإننا نرى أنّ على أميركا أن تتقبّل واقعاً خسرت فيه هيمنتها على العالم، وأنّ العالم خرج من دائرة سلطان الإرادة الأميركية. ولكن يطرح السؤال الآن: الى أين تتجه الأمور دولياً؟
قد يقول البعض بأنّ هذا التسعير في المواجهة والذي يبقى بين أميركا وروسيا محكوماً بقواعد الحرب الباردة المنفتحة على سخونة ما، ولذلك نسمّيها الحرب الباردة الجديدة والتي تختلف عما شهده الحالم بين حلف وارسو وعموده الفقري الاتحاد السوفياتي المنحلّ، وبين الحلف الأطلسي وعموده الفقري «الويلات المتحدة». قد يقول البعض إنّ العالم بات على عتبة انفجار ومواجهة عالمية، لكننا حتى اللحظة نرى استبعاد هذا الاحتمال لا كقر من سبب يضيق المقام عن تفصيله سواء عسكرياً او اقتصادياً او تحالفياً، وجاء التأكيد الأميركي الأخير على التمسك بالتفاهم مع روسيا الذي يحول دون الاصطدام معها في سورية وهو ما اسميناه تفاهم التنسيق السلبي، لذلك نقول إنّ أميركا اليوم في موقع الخاسر الذي لا يستطيع الخروج الى الحرب من اجل الخروج من الخسارة، وعليها ان تتقبل الواقع وتقر به حتى لا تتفاقم الخسارة، وأهم ما في المستقبل اننا بتنا اما المرحلة النهائية التي تهيّئ للنظام العالمي الجديد الذي خسرت فيه أميركا موقعها الأحادي.
وبكلّ وضوح واختصار نؤكد أنّ العالم ونتيجة تطورات وتحالفات ومواجهات الميدان السوري دخل في حرب باردة مرتفعة الشدة لن تصل الى حرب ومواجهة فعلية بين روسيا وحلفائها من جهة، وأميركا ومن تقود وتستتبع من جهة أخرى، إذ ليست روسيا معنية بالحرب أو تسعى إليها لا بل إنها تتجنّبها بكلّ ما أوتيت من قوة. أما أميركا فإنها تحاذرها لأنها ليست جاهزة لها وليست واثقة من تحقيق الإنجاز المطلوب فيها، وليست واثقة من حماية الإنجاز الميداني إنْ حصل، أيّ ببساطة باتت أميركا أمام واقع يردعها عن المغامرة الكبرى والعدوان ومضطرة لقبول النظام العالمي الجديد غير أحادي القطبية.
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية