إشكالية لبنان وسورية والسعودية
ناصر قنديل
– يحيي التيار الوطني الحرّ ذكرى الثالث عشر من تشرين الأول كلّ عام. وهي ذكرى المعركة التي وقعت بين الجيش السوري بالتعاون مع جزء من الجيش اللبناني بقيادة العماد إميل لحود والجزء الآخر من الجيش اللبناني الذي كان يقوده العماد ميشال عون، وانتهت بدخول الجيش السوري وحليفه الجيش اللبناني ومن خلفهما الحكم اللبناني الذي كان برئاسة الرئيس الراحل إلياس الهراوي، الذي كان يلحّ من اليوم الأول لانتخابه رئيساً للجمهورية بعد اتفاق الطائف واغتيال الرئيس الراحل رينيه معوض على تنفيذ هذه العملية وتسليمه قصر بعبدا من موقعه كرئيس للجمهورية، مدعوماً من فريق مسيحي تقوده الكنيسة المارونية برئاسة البطريرك نصرالله صفير والقوات اللبنانية برئاسة الدكتور سمير جعجع.
– لم يكن إخراج العماد عون من قصر بعبدا بالعملية العسكرية التي تمّت في الثالث عشر من تشرين قراراً سورياً صرفاً، بل كان قراراً متداخلاً بين أطراف لبنانية تضمّ ثلاثي الرئاسة وبكركي والقوات، وبين خارج إقليمي ودولي يضمّ سورية والسعودية وأميركا. والمنطقي أنّ نجاح العملية ما كان ليتم لولا هذه الشراكة، بتحليق الطائرات الحربية السورية في سماء العاصمة بيروت، بضمانات قدمتها واشنطن لدمشق، وبتأمين غطاء لبناني تولته السعودية بحلفائها المسيحيين أولاً والمسلمين ثانياً، إضافة لدمشق وحلفائها. ولوضع الأمور في نصابها بعدما تفككت احلاف الثالث عشر من تشرين على الضفتين، لا بدّ من استذكار حقيقة أنّ الموقف السوري نفسه كان محكوماً بهذا التداخل، حيث كان يتولى إدارة الملف اللبناني نائب الرئيس السوري آنذاك عبد الحليم خدام، الذي خرج من سورية يوم قرّرت السعودية بدء هجومها ضدّ القيادة السورية، وأخرج معه من التحالف معها من كانوا جماعته من اللبنانيين، وخرج كذلك من التحالف مع سورية مَن كانوا من جماعة السعودية من اللبنانيين.
– ثمة واقعتان يجدر وضعهما بتصرف الرأي العام عن تلك المرحلة، الأولى أنّ العماد ميشال عون سعى لتفادي الصدام مبكراً، برسالة وجهها للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، جرى اجتزاء فقرات منها سربت لتشويه مضمونها. والرسالة تعبير عن رغبة العماد عون بلقاء الرئيس حافظ الأسد لصياغة تفاهم، يحفظ لسورية ما تريده من قوة وللبنان ما يحق له من سيادة، وفقاً لتوصيف العماد عون. كما فيها تأكيد على الموقف الموحّد من العداء لإسرائيل، وصناعة التعاون بين الجيشين اللبناني والسوري لمواجهة أخطارها وتهديداتها، لكن هذا اللقاء جرى تعطيله واستبداله بالدعوة للقاء مع نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام الذي كان عراب العملية العسكرية في الثالث عشر من تشرين، بصفته نقطة التقاطع السعودية اللبنانية السورية المعادية للعماد عون، والمتطلعة لدور مختلف للبنان، ظهر في آليات تطبيقها المشوّه للعلاقة اللبنانية السورية من جهة، وفي تركيبة الدولة التي نتجت عن تطبيق اتفاق الطائف على تجذير وتشجيع الاحتكارات السياسية، وفقاً لمعايير الخلفيات الطائفية والمذهبية التي لا تشبه فكر الدولة السورية العلماني بشيء، والتي تتآمر على المقاومة كما كاد أن يحدث بعد عدوان تموز 1993 بقرار إرسال الجيش إلى الجنوب الذي عطله العماد إميل لحود وبقرار إطلاق النار على تظاهرة حزب الله ضدّ اتفاقية أوسلو تحت جسر مطار بيروت، في مسعى للتصادم بين الجيش اللبناني والمقاومة، عطّله عض المقاومة على جراحاتها وتفاديها التصادم.
– الواقعة الثانية هي أنّ الرئيس نبيه بري في الفترة التي فصلت بين تفاهمات لوزان وجنيف وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية من جهة، بعيد انتفاضة السادس من شباط عام 1984، وبين العملية العسكرية في الثالث عشر من تشرين الأول كان من المؤمنين بفرصة تولي العماد عون قيادة الجيش بداية ورئاسة الجمهورية تالياً، وهذا ما كان وراء ترشيح وزير الدفاع الراحل عادل عسيران للعماد عون لتولي قيادة الجيش بعد التسوية التي أنتجت حكومة الوحدة الوطنية، وأنتج سعياً مستمراً لاعتماد لغة الحوار مع العماد عون قبل اتفاق الطائف وبعده، وسعياً لفتح قنوات حوار مباشر بينه وبين القيادة السورية، وهنا لا بدّ من التذكر أيضاً، أنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي كان في تلك الفترة وقبيل العملية العسكرية في الثالث عشر من تشرين الأول، على خط الاتصال المفتوح مع العماد عون، وكان الأمين أسعد حردان آنذاك أحد أبرز الداعين لفتح خطوط التواصل والتشجيع بين العماد عون والقيادة السورية، وكانت التسهيلات اللوجستية التي تمرّ من مناطق وجود القوميين في المتن في مرحلة المواجهة مع القوات اللبنانية، تتم بقرار من القوميين، ينطلق من هذه النظرة التي ذهبت إلى المواجهة بغير رغبتها بعدما بدا أنّ سبل التوصل لتفاهمات باتت مغلقة، وأنّ الموقف يفرض خياراً يتصل بقيام مؤسسات الدولة التي ولدت من الطائف والتي كان القوميون يؤمنون بدعمها وتوحيدها وفي مقدمها مؤسسة الجيش اللبناني.
– العودة إلى هذه الوقائع لا تهدف لتبرير مواقف عبّرت في حينها عن قناعات راسخة لأصحابها بخياراتهم، وجعلتهم يقفون على ضفتين متقابلتين، لكنها تريد القول إنّ زوال العقدة السعودية من طريق المؤمنين بعمق العلاقة اللبنانية السورية، سواء بمفهومهم القومي أو الكياني، يفرض على الطرفين وضع العلاقة بين هؤلاء في مرتبة أعلى من النظر للعلاقة مع جماعات الفريق السعودي المسيحيين والمسلمين، الذين قد تستدعي ضرورات التوافق الوطني مخاطبتهم والسعي لتخفيف التوتر معهم، لكن دون تجهيل دورهم في عملية تشرين الأول، فيصير الحرص لدى الفريقين مقلوباً، الأولوية لتخاطب ودّي مع جماعة السعودية، ولا مانع بالفرقة بين الأقربين، خصوصاً أنّ ما يجمعهم اليوم سواء في الوقوف مع خيار المقاومة والتحالف مع حزبها الرئيسي حزب الله، والوقوف بوجه خطر الإرهاب التكفيري، والتصدّي لمضمون المشروع السعودي في المنطقة ولو بنبرات مختلفة، وبالتلميح بدلاً من التصريح، أو بالواسطة بدلاً من المباشرة، لا يجمع أحداً منهم مع الفريق السعودي المسيحي والإسلامي الذي لا يزال على موقفه العدائي لسلاح المقاومة، وموقفه الملتوي من الإرهاب التكفيري تحت ذريعة تسميته لحرب هذا الإرهاب ومشغله السعودي ضدّ سورية بـ «الثورة».
– من هذه السياقات دعوة للتيار الوطني الحر ودعوة لقوى الثامن من آذار لقياس الخطاب المتبادل، ليس في ما يخصّ المناسبة فقط، بل في ما يخصّ كلّ قواعد العلاقة والتحالف والتخاطب والتعليقات، سواء سار الموج الرئاسي لصالح وصول العماد عون إلى قصر بعبدا أم لا، وسواء تمّ التوصل لتوافق وطني لبناني مع الفريق السعودي في لبنان، حول الرئاسة وحكومة وحدة وطنية وقانون انتخاب أم لا، فزوال العقدة السعودية من طريق التلاقي بين طرفَيْ المعادلة الوطنية والقومية بثنائية الجدية بالموقف مع المقاومة والحرب على الإرهاب يكفي لتفرض نفسها على روح التخاطب والخطاب.
– فلنتذكّر أنّ بين سورية ولبنان وبين اللبنانيين، السعودية هي المشكلة ولا تستطيع أن تكون الحلّ.