إحصاء القامشلي.. وسايكس بيكو التركي

نظام مارديني

لم يأتِ التذكير التركي بسايكس بيكو من فراغ، بل جاء في سياق خطاب تعديل الجغرافيا التركية لتتوسّع وتضم أجزاء من الجمهورية السورية والعراق.. وبالتزامن سيبدأ اليوم الإحصاء الذي قرّره حزب الاتحاد الديمقراطي، برئاسة صالح مسلم، منفرداً في مناطق من محافظة الحسكة.. فهل دخلت دول الهلال السوري الخصيب مرحلة إعادة إنتاج الجغرافيا السياسية الداخلية على أساس من فكرة المكوّنات الإثنية والطائفية؟ وهل صناعة الجغرافيا السياسية جديدة لهذه الدول هي الحل للتضاد «العرقطائفي» والاحتراب الدائم؟ وهل الولادات «الأميبية» المتحوّلة للدويلات هي حل لأزمات الدول الفاشلة الفاقدة وحدتها الوطنية والغارقة في صراع الهويات المتخيلة؟ وهل تفتيت «سايكس بيكو» هو الحل الأوحد لتضاد الإثنيات والطوائف والمذاهب التي أجهضت مشروع الدولة الوطنية أو القومية؟

يحاجج البعض بأنَّ رؤية مراكز القرار الدولي الراهنية تتمحور حول إعادة إنتاج جديدة للجغرافيا السياسية لأكثر من دولة، وبالذات في الهلال السوري الخصيب حماية للمصالح الاستراتيجية الغربية وللكيان الصهيوني، وما يعني أن هناك سيكون أكثر من «سايكس بيكو» لتغيير وجه المنطقة وإحداث انقلاب في ثوابتها الراسخة وظهور ما يُسمّى وقتها «المسألة الشرقية» مجدداً كما في بداية القرن العشرين.

الجدل يدور منذ فترة بين عدد كبير جداً من الكُتّاب والمفكرين السوريين والعرب عن شكل الدولة وهويتها المقبلة. وحقيقة الأمر أن هذا الجدل في شكل الدولة وهويتها: هل هي مدنية أم طائفية؟ وإن كانت مدنية فهل هي برلمانية أم رئاسية؟ والنقاش يدور في هذه المرحلة عما إذا كانت ستبقى دول الهلال مركزية أم فيدرالية؟

هذه الأسئلة والنقاشات تمهّد الطريق بلا شك لأن تجعل الجماعات تحفر الخنادق لكي يتمترس كل منها في الخندق الذي يناسب رؤيته، والغاية من هذه النقاشات هي دفع الإثنيات والطوائف للبحث عن «هويات» ثانوية تتصارع من خلالها فترة من الزمن.

هذا الجدل يُبعدنا عن أساس المشكلة التي يعاني منها مجتمعنا، في الهلال السوري الخصيب، بل يبعد شعبنا عن جوهر الأزمات وأسبابها، لأن هذه الأزمات لم تحصل نتيجة تباين في شكل الدولة وهويتها فقط بقدر ما هي ناجمة عن أوضاع ثقافية واجتماعية، وحتى اقتصادية صعبة يعيشها المواطن. ومن هنا فإن شكل الدولة يجب أن يكون ذا أبعاد وطنية ـ قومية أكثر مما هي «هويات» سايكس بيكو الجديدة، التي يذكّرنا بها التركي الآن وهو يتحدث عن ضرورة إعادة النظر باتفاقية لوزان 1923 ..

هذه «الهويات الفرعية» التي نبتت بقدرة قادر مع بدء العدوان على الجمهورية السورية، تحاول فرض نفسها من خلال حلقات من النقاش في مرحلة انتقالية تتسم دائماً بالخطورة وسوء الفرز والفهم معاً.

ولعل الإحصاء المزعوم اليوم في القامشلي هو إحدى الحلقات الخطرة التي وقع فيها حزب الاتحاد الديمقراطي، وستكون له تداعيات سلبية في تلك المنطقة في مرحلة تتعرّض فيه خريطة الجمهورية العربية السورية مثلما العراق، إلى مخطط تفتيتي، سيكون أولى ضحاياه أكراد الجزيرة السورية.

غالباً ما تدخل الجماعات المتورطة في فخ الهويات «الضيقة ـ القاتلة». وهي إذ تسعى إلى تأسيس صورة زائفة عن نفسها وجماعتها، ستكون تحت ضغط وتأثير موجِّه عُصابي فتزداد لديها شحنة العدوانية والشروع بالعنف.

اترك تعليقاً

Back to top button