حتى لا يُسْرَقَ الانتصار ولا يُشوَّه…
العميد د. أمين محمد حطيط
من المسلم به أنّ المقاومة وحزب الله تحديداً فرض مرشحه لرئاسة الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون مرشحاً وحيداً قادراً على الوصول الى سدة الرئاسة، إنْ لم يكن بإجماع نيابي يحوز على أصوات جميع النواب الذين مُدّد لهم في مجلس انتهت ولايته، فأقله بإجماع وطني شكّلته مروحة المؤيدين والداعمين المتنوّعة، والتي تشمل كلّ الطوائف والمناطق اللبنانية. وانحصرت معارضة البعض لهذا الترشيح في إطار من طبيعة مصلحية شخصية ونظرة الى مستقبل وضعه وكيانه السياسي لا علاقة لها بالمصلحة الوطنية من أيّ وجه من الوجوه.
ومنذ البدء التزم حزب الله بترشيح العماد عون للرئاسة التزاماً مبنياً على قواعد أخلاقية وقواعد سياسية. وقال بالفم الملآن إنْ شئتم رئيساً، فهذا هو مَن يستحق المنصب، وإنْ رفضتم فانتظروا، ولكن لن تأتوا برئيس غيره ، مؤكداً التزامه بمرشح رآه هو المؤهّل والمتقدّم عن سواه. ولو استجاب الفريق الآخر لهذا الموقف يومها لانتخب العماد عون منذ 29 شهراً. والآن وبعد ان استجاب باتت الطريق سالكة الى انتخاب بشروط حزب الله والفريق الوطني المتحالف معه، وفي طليعته التيار الوطني الحر.
لقد التزم حزب الله أخلاقياً بترشيح العماد عون وفاء لوعد قطعه على نفسه بلسان أمينه العام في ساحة النصر في العام 2006 بأنّ في رقبة الحزب ديناً إلى يوم القيامة لكلّ من وقف معه في لحظة المحنة أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان، وميشال عون كان في طليعة مَن وقف مع المقاومة وآمن بانتصارها ودعا الى احتضان جمهورها الذي هُجّر، قام بذلك رغم انّ هذا الموقف كان شبه انتحار سياسي له ولتياره السياسي، خاصة أنه وعلى بعد 3 كلم من منزله وفي عوكر كان سياسيون لبنانيون يتحلّقون حول مائدة السفير الأميركي يتلقّون التعليمات كيف يتصرّفون عندما يُهزم حزب الله، وأيّ السكاكين يستعملون لتقطيع جسده. وبعد الـ 2006 كان العماد عون مؤيداً صلباً للمقاومة ومدافعاً عنها بكلّ ما أوتي من قوة وبيان.
أما في السياسة وقد تكون عند البعض أهمّ من الأخلاق، لكننا لا نراها كذلك، فقد رأى حزب الله أنّ وصول العماد عون الى الرئاسة يعني له ما يلي:
1 ـ وصول القيادي المسيحي الأول الى المقعد المسيحي الأول، أو بصيغة أخرى وصول المسيحي ذي القوة التمثيلية المسيحية الأعلى او المطلوب من أغلبية المسيحيين الى المقعد المسيحي الأول. وفي ذلك تحقيق للعدالة الخاصة بلبنان الذي لا يعرف الديمقراطية الحقيقية، بل يعتمد نظام فيدرالية الطوائف ويسمّيها الديمقراطية التوافقية. وهذا النظام يفرض أن يمثل الطائفة في السلطة أقواها تمثيلاً واعتماداً من قبلها. وهذا ما فعله الشيعة في مجلس النواب وما فعله السنة في الحكومة، فلماذا يكون المسيحيون والموارنة استثناء على القاعدة؟
2 ـ وصول الشخص الذي رفعت المملكة العربية السعودية الفيتو بوجهه وحاولت أن تفرض عبر موقفها وصاية على لبنان، والكلّ يعلم أنه عندما آذن مقعد الرئاسة للشغور ورشح العماد عون للمقعد وبدأ سبر أغوار القوى المحلية والإقليمية، كان قول وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل يومها قاطعاً لمن سأله: عون مرشح إيران ممنوع وصوله الى الرئاسة . ثم رفضت السعودية أيّ محاولة لفتح قناة معها لإعادة النظر بهذا الموقف مذكرة دائماً بأنّ عون حليف حزب الله وهي عدوة الحزب، فكيف تقبل بحليفه؟ ودفع عون مرة أخرى ثمن تحالفه مع الحزب الذي أبرم تفاهماً معه في شباط 2006… لكن نجاحه في الوصول اليوم يُعتبر تجاوزاً لذاك الفيتو ونجاحاً لحزب الله.
3 ـ وصول شخصية سياسية قوية مستندة الى قاعدة شعبية وقاعدة نيابية وقاعدة تحالفية وطنية عريضة، ما يمكنها من تقويم الاعوجاج في الحكم ومحاربة الفساد في الدولة، خاصة أنه صاحب فكر وتيار إصلاحي. وبالتالي يكون وصوله بمثابة الفرصة لوضع حدّ لعملية النهب المبرمج لثروات الدولة وتعطيل مرافقها العامة لصالح الجيوب الخاصة. ولإحياء النصوص المعطلة ووضع حدّ للتحريف والانحراف عن القانون والدستور والاجتهادات البدع التي راجت في الأشهر الأخير حول تطبيقهما.
وبالتالي رأى حزب الله أنّ وصول العماد عون لرئاسة الجمهورية يشكل انتصاراً له على الصعد كلها الأخلاقية والسياسية والاستراتيجية والوطنية وحتى الإدارية، وفرصة لتصحيح تطبيق الطائف أو حتى تعديل ما يستوجب التعديل من نصوصه حتى لا يُضطر لبنان لاحقاً الى 7 أيار جديد من أجل مواجهة الانحراف. ومن أجل هذا الانتصار رفع حزب الله شعاراً بسيطاً كبيراً: تريدون رئيساً انتخبوا عون او انتظروا الى… شعار تمسّك به حتى أذعن الرافضون وسقطت الاعتراضات المانعة وباتت طريق عون الى الرئاسة سالكة وبطمأنينة. ولكن بدأ الفريق المهزوم في خياراته المذعن لخيارات المقاومة يحاول أن يشوّه الانتصار او حتى يسرقه، وللأسف ظهر البعض في فريق دعم المقاومة ومن غير قصد يعين هؤلاء في سعيهم التخريبي من غير أن يدري.
انّ انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية اللبنانية يشكل وبدون أدنى شك انتصاراً للمقاومة، لأنها فرضت خيارها، وصحيح انها اضطرت للتضحية بقبول مَن هو سعودي الجنسية والسياسة مع جنسيته اللبنانية رئيساً لحكومة العهد الأولى، إلا انّ الواقعية تفرض القول بأنّ الانتصار المستقرّ القابل للاستثمار هو ما يمكن للخصم احتماله من هزيمة، وعملاً بهذا المنطق كان على المقاومة أن تضحّي بشيء يمكّنها من تحقيق الانتصار هذا ويمكّنها من استثماره. ووجود ميشال عون في سدة الرئاسة مع وفائه وقوته يشكل ضمانة رسمية لسلاح المقاومة تضاف الى الضمانة الأساسية التي يشكّلها السلاح بذاته. وهذا هو بيت القصيد على صعيد الفريق الآخر.
والآن، ولأنّ المقاومة انتصرت راح المتسلّقون على الانتصار وبوقاحة كلية يحاولون تجريد حزب الله من انتصاره. مرة بالقول إنه لا يريد رئيساً، ومرة أنه لا يريد عون رئيساً، ومرة بأنّ نواب الحزب لن يصوّتوا لعون، ومرة بالقول إنّ تظاهرات سينظمها الحزب لقطع الطريق على انتخاب عون رئيساً في 31 10 2016… إلى ما هنالك من اختلاقات وأكاذيب عرف مطلقوها أصلاً بالإجرام والفتنة ويصرّون اليوم على تاريخهم. وهنا كان الموقف الحاسم والردّ الذي واجههم به السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير ضرورياً لإفشال المسعى الإجرامي الاغتصابي هذا.
اما في مجتمع المقاومة، فصحيح انّ لمكوناته الحق بأن يكون لهم رأيهم السياسي وموقفهم، ويجب أن يحترم لهم ذلك، لكن الصحيح أيضاً ان لا يتجاوز الموقف والممارسة حدود اللعبة السياسية ضمن الفريق الواحد وألا يصل الى التسبّب بالشرذمة والانقسام، إذ ليس معقولاً ان يكون تبني ترشيح عون من قبل الخصوم موحداً لهؤلاء الخصوم ومفرّقاً للفريق الذي رشحه ودعمه وتمسك به حتى فرضه على الجميع. وليعلم الجميع في الصف الوطني المقاوم انّ قطار الانتصار الذي يسير بثقة في لبنان والإقليم لصالح محور المقاومة يتسع للجميع، فلا يخطئوا الحسابات ويضيّعوا مقاعدهم فيه من غير مبرّر او دون إدراك…
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية