عون رئيساً بتلاقي الإرادات الدولية والتوافق اللبناني
سعد الله الخليل
لا بوادر حقيقية لانفراج سياسي في أيّ من الملفات في المنطقة، أو التقدّم بجدية باتجاه التفكير بجولات جديدة من المباحثات حول الشأن السوري أو اليمني أو العراقي، فلا الظروف الميدانية تسمح للأطراف الإقليمية والمحلية بالتقاط الأنفاس، ولا الأجندة الدولية فيها متسع من الفراغ لملئه في ما يمكن اعتباره أرضية جيدة للتوافقات حول الملفات الكبرى في السياسة الدولية بانتظار العام المقبل على أقلّ تقدير.
حسم الجميع أمرهم ورُفعت مستويات التأهّب وأطلقت الملاحم الكبرى على الأرض، واشتعلت الجبهات من السعودية إلى اليمن فسورية، مروراً بالعراق، واستعدّ الحلفاء والخصوم لمعارك كسر عظم لا تقبل القسمة على اثنين، وإنْ بدت الساحة اللبنانية في العلن كاستثناء يسير نحو التهدئة السياسية، فإنها في الخفاء جزء لا يتجزأ من المعركة، فالتخلص من فراغ دام سنتين ونصف السنة في سدة الرئاسة، وبتوافق دولي إقليمي للسير بالعماد ميشال عون رئيساً ينال شبه إجماع، في حين كان قبل سنتين مرشحاً غير مرغوب فيه من بعض هذه القوى الإقليمية والدولية، يؤكد حاجة الأطراف إلى قاعدة صلبة وسط المعارك المحتدمة في محيط مشتعل.
باركت السعودية ما اعتبرته الإنجاز الديمقراطي اللبناني مئة بالمئة، وبالرغم من أنّ الخطوة جزء من التغطية على المأزق السعودي في الجبهات الأخرى، وتعبير عن التراجع اللبناني في سلّم الأولويات السعودية، من المرتبة الأولى قبل عقد من الزمن إلى المرتبة الرابعة بعد اليمن وسورية والعراق، وبالتالي تبدو المباركة السعودية، والتي أتت على مضض بطبيعة الحال، فرصة لكي تتفرغ المملكة لجبهاتها المشتعلة الأخرى، والتي باتت معارك وجودية لا فرصة لتحسين المواقع على الأرض. من هنا يأتي إعلانها النفير على الأرض السورية من بوابة أمّ المعارك في حلب، وزجّ كامل ثقلها في مواجهة الجيش السوري وحلفائه في حلب، فأوعزت لغرفة عمليات «جيش الفتح» بإطلاق معركة «حلب الكبرى»، حيث لم يتوانَ القاضي الشرعي العام لجيش الفتح السعودي عبدالله المحيسني عن وصفها بالمعركة الوجودية حيث يكون أو لا يكون. في المقابل ترى أنقرة العدالة والتنمية حليفة السعودية في الملفين السوري واللبناني بالاستحقاق الرئاسي اللبناني فرصة لإدارة المعركة في سورية من قلب العاصمة اللبنانية، فبعد قناعة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باستحالة التأثير على الرئيس سعد الحريري أو كسر تحالف حزب الله بالعماد ميشال عون، فإنه يرى في الاستحقاق الرئاسي فرصة لإعلان دعمه لقوى سنية لبنانية، تربطه بها علاقة جيدة تتمثل بالوزير المستقيل أشرف ريفي، وربما الرئيس السابق للحكومة نجيب ميقاتي، من بوابة إعادة القوة والهيبة للطائفة السنية التي أضاعها الرئيس الحريري بتحالفه مع حزب الله والعماد عون من وجهة نظر أردوغان، وبالعزف على وتر الطائفية التي يجيد اللعب عليه قد يؤمّن للسلطان العثماني الجديد فرصة لمراقبة المعركة السورية من مسرح أقرب لدمشق.
واشنطن المنغمسة في انتخاباتها الرئاسية بما هو أعمق من تورّطها في الحرب السورية، رأت بأنّ تمرير الانتخابات اللبنانية في فترة الزخم الانتخابي يؤمّن مروراً سلساً للاستحقاق في الأوساط الأميركية، ويوفر على الإدارة الإجابة عن كيفية التعاطي مع رئيس حليف حزب الله المصنّف على القوائم الأميركية للمنظمات الإرهابية، وبالتالي رحّل الملف إلى الإدارة الأميركية المقبلة للتعاطي معه كأمر واقع على الأرض اللبنانية، فيما خرجت فرنسا من المولد اللبناني بلا حمص، آخر حصونها الفرنكوفونية، ولم تعد الأم الحنون للبنانيين عامة والمسيحيين بشكل خاص منذ أن باتت دولة ملحقة بالركب الأميركي.
على الضفة الأخرى وبعد الإعلان الثلاثي الروسي السوري الإيراني خلال الاجتماع الثلاثي لافروف ـــ المعلم ـــ ظريف تكثيف الجهود لمحاربة الإرهاب، فإنّ إنجاز الملف الرئاسي اللبناني في هذا التوقيت بالذات يُعدّ إنجازاً لافتاً وانتصاراً للمحور بالمجمل، بفرض خياراته على الخصوم انطلاقاً من أرضية صلبة بوصول المرشح الأمثل لكلّ من روسيا وسورية وإيران، كلّ على حدة أيضاً، فروسيا التي تدخل بقوة في إعادة الحياة للمشروع المشرقي في السياسة والثقافة والاقتصاد والعلاقات الدولية، أدركت بأنه ثمة تقاطعات مع العماد ميشال عون ومشروعه المعلن منذ عقود والداعي للحفاظ على الهوية المشرقية المسيحية، وفرصة مؤاتية لتملأ الفراغ الناشئ عن الضعف الفرنسي في الساحة المسيحية، يضاف إلى ذلك التوافق السياسي في مجمل قضايا المنطقة، بدءاً من الأزمة السورية إلى التوافق مع الحليف الإيراني ما جعل تمرير الاستحقاق الرئاسي قيمة مضافة للدور الروسي في المنطقة، بإيصال حليف قوي قادر على إدارة الخلافات والاختلافات اللبنانية بحنكة مطلوبة في الظروف الراهنة، وبالرؤية ذاتها تنظر طهران إلى وصول عون إلى قصر بعبدا كانتصار لحزب الله ولورقة التفاهم الموقعة بين الطرفين في شهر شباط 2006 قبيل الحرب الإسرائيلية على جنوب لبنان، وقبل اندلاع موجة الأحداث في العالم العربي وانطلاقة الحرب على سورية، وبالتالي فإنّ التفاهم والتوافق لم يكن وليد مقتضيات مرحلية واصطفافات آنية ما منحه قوة تريح طهران.
أما سورية التي اتّهمت بعرقلة الاستحقاق الانتخابي وتعطيل المؤسسات الدستورية اللبنانية، فأدركت منذ اللحظة الأولى بأنّ خياراتها في لبنان لن تحيد عما تراه بوصلتها في بلاد الأرز متمثلة بحزب الله، ومع إدراك الجميع بصعوبة وصول عون إلى الرئاسة عام 2014 حيث المعارك في لبنان على أشدّها، في ذروة الاستقطاب السياسي بين قوى 8 14 آذار حول دور المقاومة على الأرض السورية، فيما على الجانب السوري تبدو معارك القصيْر على أشدّها، حينها اعتبر الفراغ الرئاسي أبغض الحلال، وضمانة لعدم وصول رئيس يضرب وجود المقاومة في سورية من الخلف، إلى أن حان وقت التفاهمات مع اقتناع الأطراف الدولية والإقليمية واللبنانية بإمكانية السير في التوافقات بعد فشل تمرير مخططاتها العالية السقوف في سورية.
تلاقت الإرادات الدولية والتوافقات المحلية على المضيّ في الملف الرئاسي اللبناني فسهّلت انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية اللبنانية دونما منافسة تُذكر، ولتبدو صناعة الرئيس الثالث عشر للجمهورية اللبنانية لبنانية مئة بالمئة.