أبو مالك التلي يملأ الفراغ… انتخبوه رئيساً!

د. وفيق ابراهيم

لا يسخر هذا العنوان من أحد، بقدر ما يعكس تخلّي الدولة اللبنانية عن أدوارها وغياب السلطة منذ ما قبل اختطاف العسكريين اللبنانيين في جرود بلدة عرسال، عن أداء الحدّ الأدنى من واجباتها. هناك ابتزاز يومي يمارسه الخاطفون، بمشاركة وزراء لبنانيين. فهم يتصلون بأهالي الجنود، ويحدّدون لهم نوعية ضغوطهم على الدولة وكيف يقطعون الطرقات ومتى يفتحونها منتقلين إلى مناطق أخرى.

كما أنّ للخاطفين من جبهة «النصرة» الإرهابية، خطوط اتصال هاتفية يومية مع وزراء ونواب لبنانيين، وصولاً إلى قيادات حزبية وطائفية، تعلن جهاراً أنّ جبهة «النصرة» ليست إرهابية، بل معتدلة، وذلك في حركة لمنع التعرض لجنود ينتمون إلى الطائفة التي تتزعمها.

تحدث هذه الأمور كلها، نتيجة لغياب الدور السياسي للدولة، وابتعادها النسبي عن إدارة مفاوضات لتحرير جنود نظاميين يدافعون عن البلاد. ونتيجة لرفض الدولة ممارسة مهامها، استسلم أهالي العسكريين للخاطفين واستسلم معهم النائب وليد جنبلاط والوزير وائل أبو فاعور ونواب ووزراء آخرون، فأصبح كلّ هؤلاء في يد «زعيم النصرة» أبو مالك التلي الذي يحرك الدولة حين يغضب، ويريحها حين يرضى. يثير جنون الأهالي الطيبين الحريصين على أبنائهم، الذين يؤلمهم تلكؤ الدولة وإهمالها، ويعيد إليهم عقولهم، حين يعلن رفع سكاكين الذبح عن أعناق أولادهم.

وهكذا يسيطر التلي على سوق السياسة في لبنان، بدليل أنه الوحيد القادر على إرباك الوضع الداخلي وإعادته إلى وضعه الطبيعي ساعة يشاء. يأمر باستقبال الوسيط القطري الذائع الصيت محمَّلاً بالمؤن على اختلاف أنواعها من الغذاء والمازوت والبطانيات، ويعود ذلك الوسيط إلى بيروت ناقلاً خطة مفاوضات جزئية، يقول إنّ الخاطفين في صدد استكمالها في الأيام المقبلة. ولا تأتي هذه الأيام، بل تتوارد معلومات تلقاها الأهالي من الخاطفين عن طلبات مستحيلة، خمسة مساجين إرهابيين وخمسون سجينة سورية مقابل الجندي الواحد.

وعندما تبدأ الدولة في بحث المطالب، لا تجد الوسيط القطري، وتتغير الشروط بسحر ساحر وآخرها طلب إطلاق مسجونين اثنين هما جمانة حميد التي كانت تنقل سيارة مفخخة إلى الضاحية، وابن مصطفى الحجيري أحد زعماء «النصرة» الذي كان يهاجم الجيش في بلدة عرسال، من دون أن تحدّد «النصرة» ماذا ستقدم مقابل إطلاقهما؟ وربما تكون الأخيرة قد أضافت اسم ابن الحجيري كرمى لعيون والده المستضيف والمنتحل صفة الوسيط، وهو المتورط في خطف العسكريين وذبح بعضهم، ولعيون الجماعة التي كان رئيس بلدية عرسال علي الحجيري يؤكد براءتها.

والطريف أنّ مطالب «النصرة» تتعدى إطلاق سراح 150 إرهابياً من سجن رومية، و1500 امرأة سورية، قسم منهن في السجون السورية وقسم آخر غير موجود. وتحتاج عملية كهذه إلى تنسيق سياسي ـ أمني بين لبنان وسورية، وهو أمر مرفوض في الوقت الحالي. إذ تتعرض الحكومة اللبنانية لضغوط كثيرة في شأن التنسيق مع الدولة السورية، الضغط الأول أميركي يمنع التفاوض مع نظام الرئيس بشار الأسد بذرائع واهية. والثاني سعودي، لا يريد دوراً لحزب الله في هذا الموضوع، وتأتي هذه الضغوط على حساب سلامة أبنائنا في جرود القلمون، ولمصلحة التفاوض وإقامة علاقات مع جهات يصنفها مجلس الأمن الدولي منظماتٍ إرهابية.

لقد تحولت بلدة عرسال إلى صورة مصغرة عن الوضع السياسي في لبنان. وهي تزود الخاطفين بكلّ ما يحتاجونه للصمود في الجرود وتغطيهم سياسياً، فكيف يعيد هؤلاء جنوداً مخطوفين أصبحوا من أسباب بقائهم في جبال القلمون.

هناك إذاً انسداد متعمَّد في ملف العسكريين، وهذا الملف يتحرك حيناً ثم يتوقف عندما تصل المؤن إلى جبهة «النصرة» التي تتلقى ضغوطاً كي لا تسيء إلى العسكريين، الذين يتوسط لهم كلٌ من رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع والنائب وليد جنبلاط، وبعض الذين يحظون باهتمام هيئة علماء المسلمين، وجهات ليس من مصلحة البلاد ذكرها.

وهنا نسأل: لبنان إلى أين؟ والنظام السياسي المفكك إلى أين؟ وكيف نسمح بتدمير الحدّ الأدنى من الترابط السياسي والاجتماعي بين اللبنانيين؟

يبدو أنّ المطلوب من قيادة الجيش وحزب الله حزم أمريهما لتحقيق مكتسبات ميدانية، تعيد إلى لبنان أبناءه موفوري الكرامة والسلامة، لأنّ استمرار النزف الاجتماعي والسياسي يهدّد لبنان بأخطار أكبر لا تحمد عقباها.

أما الفراغ السياسي، فهو النتيجة الطبيعية لتفكك مؤسسات النظام السياسي إلى وحدات مذهبية صغيرة، وهو بداية التدمير النهائي، في ظلّ الانسداد القوي في العلاقات بين الدول الإقليمية الأساسية.

ولأنّ أبو مالك التلي هو الذي يحرك التفاعلات السياسية في الداخل البناني، وتؤيده قوى سياسية لبنانية كثيرة، فما الذي يمنع انتخابه رئيساً. صدقونا إنّ سياسيين في هذا المستوى من الخِفة وقلة المسؤولية الوطنية يحتاجون إلى رئيس في حجم أبو مالك التلي…

وفي المحصّلة، إنّ جنودنا هم أبناء الوطن والجيش وعلينا التضافر لإنقاذهم من ذباحي العصر، سلماً أو حرباً… كلّ شيء في سبيلهم مسموح لأننا بذلك نعلم أبناءنا أنّ وطنهم لا يتركهم أبداً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى