لماذا استهداف الجيوش العربية؟
د. وفيق ابراهيم
إنّ ظاهرة الاستهداف «الحصري» للجيوش في «الجمهوريات» العربية مثيرة للانتباه ومقلقةٌ لأنّ مراميها ليست عسكرية فقط، كما يبدو، بل تشمل الأبعاد السياسية والاجتماعية والوطنية للدول ولا تزال هذه الظاهرة تكبر ككرة الثلج.
بدأت تلك الظاهرة في السودان فأنهكت جيشه وشلّته، ما استتبع انقسامه إلى دولتين قابلتين للزيادة إلى أربع أو خمس دول.
وأدركت «كرة الثلج» العراق، حيث عمل الاحتلال الأميركي على تدمير جيش في شكل كامل، وكانت النتيجة ولادة ثلاثة أقاليم متنازعة على أسس قومية ومذهبية ومرشحة لأن تصبح دولاً كاملة في عهد قريب.
أما اليمن، فما كادت السعودية تشجع قبائله وتمولها وتسلّحها، مدعومة من الطائرات الأميركية، حتى تشتّت إلى سلطات وقبائل وجهات متحاربة، حتى أصبحت الدولة اسماً على غير مُسمّى.
ولم تستطع ليبيا مقاومة كرة الثلج طويلاً، فدمّر التحالف الأميركي ـ الفرنسي الخليجي جيشها وأعادها مئات الأعوام إلى الوراء. فسقطت الدولة وعاشت الأقاليم والزوايا والتكايا، وصار لكلّ طرف بئر نفطٍ خاصة به ومشترون في أفريقيا وأوروبا.
وها هي مصر الجار الإقليمي، تعرض خدماتها على مستوى «المقاولات العسكرية ـ السياسية» لإعادة الأمن إلى «الولايات الليبية المتحاربة» والاستفادة بالطبع من النفط المسلوب.
لم تسلمْ تونس، بدورها، من المخطط، لكنّ عدم وجود تنوعات عرقية ودينية كبيرة فيها، عطل مشروع التدمير، فكان أن أسقط التونسيون الخيار الأميركي الإخوان المسلمين في انتخابات ديمقراطية مشهودة.
كذلك فعلت مصر، فعلى الرغم من استهداف جيشها من قبل شبكة تحالفات تركية ـ قطرية ـ أميركية داعمة للإخوان المسلمين، جابه الشعب المصري الحملة بشجاعة، لكنّ الجيش المصري لا يزال يتعرّض في شكل متواصل لهجمات «إسلاماوية» لم تسحب واشنطن حتى الآن غطاءها عنها، فهناك هيئات أميركية لا تزال تعتبر حكم المشير السيسي انقلاباً وتترحم على عهد مرسي «النصر السلفي» للديمقراطية الغربية.
إنّ ما جرى ويجري في سورية، أماط اللثام عن الإصرار الغربي الإسلاماوي على تدمير الجيوش العربية، حيث نشأ تحالف غير منطقي وخرافي بين غرب يُفترض أنه وريث الديمقراطيات، وبين تركيا العثمانية الإخوانية، والخليج حيث الممالك المشيدة والتخلف، و«القاعدة» و«داعش» و«النصرة».اتفق كلّ هؤلاء على استهداف الجيش السوري، حتى أنهم أنتجوا مئات الأفلام عن انشقاقات لعسكريين سوريين تبين أنها زائفة، ودفعوا مليارات الدولارات من أجل ذلك.
ولأنّ الجيش تصدى لهذه الحملات، تعمَّد الإعلام الغربي والخليجي إعداد حملات، لشيطنته وتصويره جيشاً فئوياً وطائفياً ومرتكب مجازر.
ولم توفّر كرة الثلج حتى لبنان البلد الصغير لعدة أسباب: مجاورته لسورية والنفوذ السعودي والسلفي الإرهابي فيه ومحاذاته لفلسطين المحتلة، لذلك جرى العمل على تعطيل جيشه، فلم يتمّ تزويده بالسلاح ومُنع من الحصول عليه من روسيا وإيران. فالقوى الداخلية التي عطلت دور الجيش محسوبة على السعودية وقطر وأميركا، وهي لا تريد تزويده بقوة تمكنه من مواجهة الإرهاب، كما أنّ هناك من لا يريد للجيش أن يصبح قادراًً على صدّ الاعتداءات «الإسرائيلية»، وهذا ما اتضح من خلال مسار الهبة السعودية التي لم تنفذ بعد، وسط تردّد فرنسي.
أما في الصومال وموريتانيا، فهناك تعطيل للجيش، كما جرت محاولات لتدمير الجيش الجزائري لكنها لم تنجح.
وفي المحصلة يتبيّن أنّ المستهدف هو الجيوش العربية في الجمهوريات فقط، بحيث لم تشمل الحملة جيوش ممالك الخليج والأردن والمغرب، ويتبيّن أيضاً، أنّ المهاجمين هم سلفيون مدعومون من «الغرب» وتركيا والخليج مع تواطؤ «إسرائيلي» واضح.
والسؤال: لماذا هذه الجيوش بالذات؟
لم تنجح الدول العربية التي تأسّست بعد الحرب العالمية الثانية في تأمين آليات صهر اقتصادية وسياسية واجتماعية لدمج مكوّناتها. فلم يُوزع المال العام وفق خطط إنمائية عادلة، واحتكر رهط قليل من الناس السياسة، ما خلق هوة كبيرة بين فئة قليلة محظوظة وبين غالبية الناس.
أما اجتماعياً، فلم يتساوَ الناس في الحقوق، والاستثناء الوحيد الذي تمكن من دمج الفئات الريفية الفقيرة هو الجيوش التي جذبت أبناء الطبقات المعوزة وربتها على عقيدة وطنية، فاتضح للغرب وحلفائه أنّ تدمير الجيوش كاف لتدمير الدول وإعادة الوضع فيها إلى ما كان عليه من خلافات قبلية ومذهبية وطائفية.
أما الأنظمة الملكية، فقد استعملت إمكاناتها الاقتصادية من النفط والغاز للردم الموقت للفوارق، إنما على أساس اقتصاد ريعي ضعيف وحماية غربية كاملة، لذلك ركزت السياسة الأميركية على تأمين المناخات المناسبة للاستهداف أمام التكفيريين وشجعتهم على ضرب سورية والعراق ومصر واليمن، ووفرت لملكيات الذهب الأسود كلّ أنواع الحمايات.
ولأنّ هذا المخطط لم ينجح بسبب صمود الجيشين السوري والمصري، فقد بدّلت واشنطن لعبتها وزعمت أنها تريد قتال إرهاب هي من شجع على تأسيسه وغضّ الطرف عن نموه وسكت عن التأييد الخليجي التركي له.
وفي المحصلة، فإنّ الجيوش في الجمهوريات العربية هي المؤسسات الوحيدة ذات الطابع الصحيح الذي صهر في بوتقته كلّ المكونات في إطار وطني مقبول، وهي تؤدي دوراً أساسياً في حماية الدول. إنها جيوش المنطقة فحافظوا عليها، تحافظون على المشرق العربي.