سورية والعراق تفضحان ألاعيب السياسة الأميركية
د. وفيق ابراهيم
هناك مشهدان كبيران يجتاحان الشرق الأوسط، وهما يترابطان في التداعيات ويتناقضان في المصداقية.
الأول، هو مشهد الانتصارات الاستراتيجية التي يحققها الجيشان السوري والعراقي في وجه إرهاب دولي يحتلّ عشرات آلاف الكيلومترات المربعة من بلديهما. أما الثاني، فهو مشهد الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في الخليج وتركيا وهم يتنادون مصعوقين من هذه الإنجازات، ويحاولون وضع خطط طويلة لمحاربة الإرهاب في العالم، كما يزعم وزير الخارجية الأميركي المستر كيري.
ويردف رئيس أركان الجيوش الجنرال ديمبسي بالدعوة إلى التمهل في مكافحة الإرهاب لأسباب لم يذكرها. لكنها لم تعد بخافية على اللبيب.
النتائج واضحة… فما أن اجتاح «داعش» أقاليم كبرى في العراق بتآمر «بعثي» وتركي و«عرقي» مباشر، وبدعم مالي وإعلامي من السعودية، وما أن تمدّد في سورية، بدعم تركي، على حساب الأكراد وتنظيمات إرهابية أخرى حتى أنشأت واشنطن تحالفاً دولياً جوياً قالت إنه كفيل بإنهاء الإرهاب. وتبين أنّ قصفها رسَّم الحدود بين التنظيمات الإرهابية ومناطق الأكراد، بما يمهد لاستقلال كردستان السورية والعراقية ولاحقاً التركية.
ولم يخجل أبطال «حزب العدالة والتنمية»، من السلطان أردوغان إلى الصدر الأعظم أوغلو، من الجهر علناً بأنهم لن يحاربوا «داعش» إلا بعد إسقاط النظام السوري ومنع الأكراد من إنجاز دولتهم، في وقت واصل التحالف الأميركي قصفه ملحقاً الأذى في معظم المرات بالجيش العراقي وكتائب الحشد الشعبي، زاعماً أنها من طريق الخطأ وقاذفاً من الجو سلاحاً إلى الإرهابيين من طريق المصادفة أيضاً.
في المقابل، وفي أسابيع معدودة تمكنت قوات عراقية مدعومة بخبرات إيرانية من تحرير محافظة صلاح الدين ومدينة تكريت، مركز «البعث» القديم ومقرّ الإرهاب الجديد، واتضح أنّ إيران كانت تدرّب، منذ سقوط محافظات الموصل وصلاح الدين والأنبار، حشوداً عراقية، رسمية وشعبية، وتزودها بالسلاح، وها هي تباشر مهمّة تحرير الأجزاء الواقعة تحت نير الإرهاب وسط ذهول أميركي واضح.
وما صعقَ الأميركيين، ومعهم أحلافهم من آل سعود والأتراك، هو الالتئام الشيعي ـ السنّي تحت راية عراقية واحدة، للمرة الأولى منذ عدة عقود، الأمر الذي عطّل أبواق الفتنة المقبلة من الخليج وتركيا، وأضعف اللغة المذهبية أمام منظر العشائر السنية الملتحقة بالجيش العراقي لقتال الإرهاب، والمصرّة على الاتحاد مع مثيلاتها الشيعية تحت راية العراق الحديث المأمول أن يتجه ديمقراطياً.
أما لجهة سورية، فقد أذهل جيشها الجميع بشنّه هجمات لجهة الحدود الأردنية والجولان السوري المحتل من قبل «إسرائيل»، وعلى مقربة من الحدود التركية، محققاً انتصارات متسارعة ومنتقلاً من التموضع إلى الهجوم للتحرير.
وكشف الجيش السوري عن وحدته التاريخية مصيباً المراهنين على الانشقاقات والانكسارات في صفوفه بخيبات أمل كبيرة… أليس من قبيل الإعجاز أن يتمكن جيش مع كتائب شعبية وأحلاف أخرى من تحقيق هذه الاختراقات، برغم الدعم «الإسرائيلي» والأردني والتركي لمعظم التنظيمات الإرهابية؟
تتضح مدى هزالة التحالف الدولي بقيادة أميركا، لكنّ هذا الموقف يخفي مشروعاً أميركياً أصبح واضحاً إلى درجة كبيرة، وها هو كيري يطلب تفويض الكونغرس على حقّ أميركا بمقاتلة الإرهاب من دون تحديد المناطق الجغرافية، وبعمليات إغارة لا تتطلب احتلالاً دائماً، وكأنه يطلب تفويضاً بإدارة العالم الإسلامي لمدة ثلاثة أعوام بما يشبه الانتداب. أليس هو «الكاوبوي» المأذون بالقتل الدائم، وتسارع دول الخليج، بزعامة الرياض، إلى الطلب بتشكيل قوة ردع لمكافحة الإرهاب، إنما بمضامين مختلفة تضع حزب الله و«داعش» في سلة واحدة، فيما يذهب آخرون إلى وضع إيران وسورية وحزب الله والحشد الشعبي في العراق و«داعش» في سلة واحدة؟
أهذا هو الإرهاب الذي يدكّ العراق وسورية مهاجماً أهدافاً في أوروبا وأميركا وروسيا والصين والشرق الأوسط، فاتكاً بالمدن المصرية وصحراء سيناء؟ هل هناك «إرهابيون إيرانيون» ومن حزب الله يغيرون على أهداف عربية وإسلامية ومسيحية ومدنية ويذبحون الآشوريين والأقليات والمسيحيين؟
من هنا يتبين أنّ الاختلاف على هوية الإرهابيين، إنما هو أسلوب لمنع ضرب الإرهاب الفعلي الذي يجتاح العالم… نعم هناك مشهدان متناقضان أحدهما يدافع عن بلاد الشام والعراق وجزيرة العرب، والآخر يهاجمها محاولاً سحق تاريخها وإعادة تشكيلها من جديد، برعاية أميركية كاملة ومشاركة «إسرائيلية».
وفي المحصلة، فإنّ المشهد المركب أميركياً يربط بين إنهاء الإرهاب وبين إلغاء الملف الإيراني وحصار روسيا وكبح جموح الصين.
ويبقى الرهان معقوداً على فرسان سورية والعراق وأحلافهم لتعويم المشهد الأول، وجعله «مصيراً» يستحق التضحية من أجله لوقف الأوبئة التاريخية القاتلة التي تضرب عادة ولا تنتهي إلا بمقاومات الشعوب وصمودها.