ماذا تعني الهبّة الشبابيّة في فلسطين اليوم… ؟
إبراهيم علوش
الجديد في فلسطين اليوم هو تصاعد جرأة الشباب العربي الفلسطيني، وإقدامهم على تنفيذ عمليات نوعية بأدوات بسيطة، مجسّرين الهُوّة بين الإمكانيات والطموحات، بالكثير من البداهة وحضور الذهن، والجسارة التي تميّز الشباب العربي الفلسطيني، في سلسلة من العمليات البطولية التي تُمثِّل إبداعاً مقاوِماً في أصعب الظروف. فمن يرمون لتغيير الواقع لا يستسلمون لشروطه، بل يجترحون الأدوات اللازمة لصناعة الحلم.
يقوم شاب، أو شابّة، أو أكثر، في عموم فلسطين كلّ يوم بطعن صهيونيّ أو دهسه. فهو يخطّط وينفّذ بطولته منفرداً، لكي لا يقول التاريخ إنّ قضية فلسطين ماتت في زمن «الربيع العربي»! «أنصار بيت المقدس» في سيناء يهاجمون الجيش المصري، والصهاينة على بعد أمتار منهم. وجماعات «الثورة السورية» يتلقّون الدعم المباشر من العدو الصهيوني من الجولان. السلطة الفلسطينية مشغولة بشروط «إعادة إحياء محادثات السلام»، وحماس باتت مشكلتها نيل الاعتراف العربي والدولي بـ «دويلة» غزة!
لذلك دخل الذئب العربي الفلسطيني الميدان منفرداً، ليُلقي الرعب في قلوب الغزاة، لأنّه لم يجد إطاراً أو سياقاً سياسياً يُشفي غليله: كل بوصلة لا تتّجه إلى القدس مشبوهة، وفلسطين عروسٌ مهرُها الكفاح المسلح فإذا لم يتوفّر السلاح، فلا بأس بسكين أو سيارة أو حجر… وهو لا يقول إنّه سيحرّر فلسطين وحده، بل إنّه لا يقول شيئاً على الإطلاق! إنما يكشف عارنا جميعاً. كلّنا، بلا استثناء، فهو أدونيس، أو هي عشتروت، وهو البطل الوحيد في موسم الردّة. حتى أنه يحمي الفصائل لأن الكيان الصهيوني لا يستطيع الانتقام منها بجريرة ما يقوم به منفرداً بقراره وحده.
وإذا كان الصاعق دينياً، فإن برميل الغضب الذي يفجّره وطنيٌ وقوميٌ بكل جدارة، وكان اقتحام المسجد الأقصى من قبل أرييل شارون قبل خمسة عشر عاماً قد فجّر انتفاضة في فلسطين، فأصرّ الصهاينة أن يصفّوا حساباً تاريخياً بارتكاب الانتهاك نفسه في صبيحة ذكرى انتفاضة الأقصى، مراهنين على دور السلطة في منع انفجار انتفاضة، وعلى الثقافة التسووية الانهزامية التي رسّختها أوسلو ومَن وقّعوها ونفّذوها. لكن هيهات! كما أن الصهاينة لم يقرأوا معنى تصاعد عمليات الطعن والدهس منذ أشهر طوال.
هنا تأتي المطالبة بالتوجّه للمحاكم الدولية والأمم المتحدة والجنائية الدولية وما شابه من الهراء، رداً على الانتهاكات الصهيونية من حرقٍ للبشر والشجر والحجر والمقدّسات، لتمييع الغضب الشعبي، ولتصيب كل مقاوم حقيقي بحالة من الغثيان والقرف، خصوصاً عندما يأتي الخطاب من طرف يفترض أنه وطني أو مقاوم. فهذه الجرائم، أولاً، هي استمرار لنهج صهيوني عمره أكثر من مئة عام. ثانياً، مثل هذه الجرائم البشعة يجب أن تذكّرنا أن الصراع مع الصهيوني هو صراع تناحري لا يُحلّ إلا بالعنف. ثالثاً، مثل هذه الجرائم تُظهر الجوهر التلمودي للجرائم التكفيرية، وأن التكفير والصهينة وجهان لعملة واحدة. رابعاً، لقد أثبت سجل المنظمات الدولية والأمم المتحدة والمحاكم الدولية والمؤسسات الدولية أنها معادية لنا، وأنها أداة بيد القوى الدولية ضدّنا، فهي التي أعطت فلسطين لليهود، وهي التي حاصرت العراق، وشرّعت تدمير ليبيا، وحصار سورية، وقصف اليمن، الخ… فالاستجارة بها تمثل نوعاً من عقدة النقص من جهة، وتمثل شكلاً من الغباء المستفحِل ينطلق من طلب العدل من الظالم، خامساً، المحاكم الدولية عامة، من محكمة الحريري إلى الجنائية الدولية، هي أداة لمطاردة الدول والشخصيات المستقلة وحركات المقاومة كما هو بيّن، وانتبهوا جيداً من أن الاعتراف بها يمثل تشريعاً لمحاكمتنا نحن بتهمة الإرهاب ضد اليهود، أو البراميل المتفجرة، أو أي حجة ملفقة أخرى، سادساً، إذا كان مفهوماً أن تعلّق السلطتان الفلسطينية والأردنية عجزهما على مشجب المنظمات الدولية، فإن ذلك مرفوض تماماً عندما يأتي من شخصيات وقوى محسوبة على المقاومة. سابعاً، الرد على جرائم الاحتلال يُفترض أن يكون عسكرياً، أو فلنكفّ عن اللغو والهراء أحسن…
أن تتصاعد المقاومة في فلسطين رداً على الاحتلال الصهيوني، ولو لم يقم بانتهاكات يومية، كما يفعل الصهاينة، هو أمر طبيعي ومشروع، والعيب على السلطة وأجهزتها التي أنشئت أصلاً كي تكون كلب حراسة لأمن العدو الصهيوني. ومن الواضح أن هذه المقاومة تأخذ اليوم طابعاً: 1 شعبياً، و2 مسلحاً، وسحقاً لمن يحاول أن يقدّم «المقاومة الشعبية» بديلاً للمقاومة المسلحة، إنما هما مكمّلتان لبعضهما، وكلتاهما لا تحققان الغاية منهما من دون وضوح في الرؤيا السياسية، إذ ليس هناك أتفه من هدف «الدويلة» الفلسطينية في الضفة وغزة والقدس الشرقية إلا تفاهة هدف «الدولة الواحدة» التعايشي مع المحتلّ الغاصب. لأن الثوابت العربية في فلسطين، كما حدّدها الميثاق القومي للعام 64 والميثاق الوطني الفلسطيني للعام 68 هي أن فلسطين عربية من النهر إلى البحر، وأنها لا تُحرّر إلا باستراتيجية الكفاح المسلح، وأن اليهود فيها غزاة. وقد كان غياب الوضوح السياسي والقيادة الصلبة التي تمتلكه أهم أسباب تبديد تسونامي التضحيات العربية الفلسطينية منذ نهاية القرن التاسع عشر.
يتصاعد إبداع المقاومة الشبابية الفلسطينية اليوم بسبب انسداد وانكشاف مشروع «التسوية» الخيانية مع العدو الصهيوني، ولأن ما يُسمّى «الربيع العربي» همّش القضية الفلسطينية وأغرق العرب، في دول الطوق خصوصاً، بالصراعات الداخلية، وبغضّ النظر عن قدرة هذه الهبّة الشبابية العفوية على التصاعد والاستمرار، بعيداً عن المكابح التي يحاول البعض أن يفرضها عليها تحت عنوان «القيادة الموحّدة» و«الوحدة» غير الوطنية مع أصحاب المشاريع التسووية من اليمين أو اليسار، فإن علينا على الأقل أن نركّز على أهميتها في فضح سقوط مشاريع «التسوية السلمية» مع العدو الصهيوني، وفي إسقاط مشروع «فلسطنة» القضية الفلسطينية وعزلها عن عمقها الشعبي العربي من القيادة الفلسطينية منذ ما قبل محمود عباس.