لا لقيادة موحَّدة لانتفاضة الشباب في فلسطين
إبراهيم علوش
ليس صحيحاً أن انتفاضة الشباب، أو «هبّة السكين»، التي دشّنها البطل مهنّد الحلبي في شوارع القدس العتيقة أوائل تشرين الفائت، هي مجموعة غير مترابطة من عمليات الطعن الفردية والمواجهات بالحجارة التي تقودها زمرٌ متفرقة من شباب الأحياء. ولكنها، بالمقابل، ليست من مخرجات الفصائل الفلسطينية المعروفة، لا حماس ولا الجهاد ولا فتح ولا فصائل اليسار، ولو شارك بعض شباب الفصائل فيها ضمن سياق آخر، لا تتحكّم قياداتهم بإيقاعه البتة، هو ليس عفوياً بالمعنى التقليدي للتعبير، بل يمثل حالة جديدة سياسياً وتنظيمياً، لا يقودها حزب أو تنظيم، ولا تخضع، في الآن عينه، للمزاج الفردي للأفراد أو مجموعات الأحياء والجامعات، إنها حالة فريدة تمرّغ أنف منظِّري الثورات الملوَّنة مثل جين شارب بالوحل، لأنها تضع التناقض مع الاحتلال الصهيوني على رأس جدول أعمالها، فلا تغرق في أوحال الخطاب الليبرالي «الإصلاحي» الملوَّث الذي تروِّج له المنظمات غير الحكومية الممولة أجنبياً في فلسطين وخارجها ، ولا تماري في اعتبار السكين والحجر وسيلةً للتعاطي مع المستعمِر الصهيوني فرداً ومؤسسة، وفي الوقت نفسه، لا تعجز عن إيجاد شبكة تنسيق مرنة ما بين المجموعات والأفراد المختلفين، غير رسمية وغير هرمية، أثبتت قدرتها حتى الآن على امتلاك زمام المبادرة واختيار المكان والزمان والطريقة التي ستتم فيها المواجهات الميدانية مع العدو الصهيوني.
لقد تمكّنت تلك الحالة الشبابية العربية الفلسطينية، في ديناميكيتها الحركية وسقفها السياسي وأشكالها النضالية، من: 1 تجاوز كل الفصائل لتتصدّر المشهد السياسي الفلسطيني ولتصبح اللاعب الرئيسي فيه، 2 إعادة توجيه البوصلة نحو التناقض الرئيسي، في مفارقة ناصعة مع المشهد العربي الغارق في التناقضات الهوياتية السخيفة، 3 تعرية السلطة الفلسطينية وتواطئها وتنسيقها الأمني. ولهذا صار لا بدّ من احتوائها وإجهاضها، أو الركوب عليها، كلٌ بحسب أجندته، تحت عنوان مخاتل هو «القيادة الوطنية الموحَّدة للانتفاضة الثالثة»!
ليست السلطة الفلسطينية طرفاً محايداً في انتفاضة السكين والحجر بالمناسبة، فأجهزتها تعمل منذ أشهر على إجهاضها وشطبها في الشارع وفي غرف التحقيق، ومن ذلك مثلاً قيام ما يُسمّى بـ«حرس الرئاسة» التابع للسلطة الفلسطينية بقطع الطريق على المتظاهرين المتوجهين لمستعمرة بيت إيل قرب البيرة وضربهم بالهراوات واعتقال عددٍ منهم يوم 25 كانون أول 2015، لمنعهم من الوصول لنقاط المواجهة مع الاحتلال، مع العلم أن تلك المستعمرة يقع فيها مقر «الإدارة المدنية»، المسؤول عن إدارة شؤون الضفة في وزارة «الدفاع» الصهيونية. فالمهم أن لا يغضب «المعلّم» على السلطة!
يدير شباب الانتفاضة صراعاً مع الاحتلال على صعد عدة، لا يقتصر على النزول للشارع، ومنه الصعيد الاقتصادي مثلاً، حيث ينشرون ثقافة مقاطعة حقيقية لمنتجات الاحتلال الصهيوني ما استطاعوا لذلك سبيلاً، وعلى عكس المراحل السابقة، حين لم تتوفر البدائل الفلسطينية وغيرها للمنتجات «الإسرائيلية»، فإن المقاطعة اليوم باتت أسهل منالاً، ما عدا بعض الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والاتصالات، لكن ما لا يُدرَك كله، لا يُترَك جله، كما أن الشباب العربي الفلسطيني في ممارسته لمقاطعة الاحتلال اقتصادياً لا يحول ذلك إلى بديل للحجر والسكين، كما يفعل البعض، ولا إلى بديل لتأييد العمل المسلح، ولا يمسخ المقاطعة الاقتصادية بتحويلها إلى قناة أخرى للتطبيع مع «الإسرائيليين التقدميين» أو لتخفيض السقف السياسي إلى برنامج يتخلّى عن عنوان عروبة الأرض، الذي يدركون بحسهم السياسي الفطري أنه لبّ الصراع.
أشار كثيرون للطابع التقدمي لانتفاضة الشباب العربي الفلسطيني الجديدة وبروز دور المناضلات الشابات البطلات فيها ميدانياً، ولا شك في أن هذا تطورٌ رائعٌ وضروري سيساعد بالتخلص من آثار الغزوة البترودولارية للوعي الشعبي العربي والفلسطيني غير أن التطور الآخر، الرائع والضروري، الذي تمخضت عنه تلك الانتفاضة هو إسهامات شباب الأرض المحتلة العام 1948 فيها، من مواجهة التطبيع كما فعل شباب جامعة حيفا عندما أفسدوا محاضرة المطبِّع عمر سالم في 17 كانون الأول 2015 ، أو في الدعوة لمقاطعة المنتجات الصهيونية والاستعاضة عنها بالمنتجات العربية وأهلنا في الـ48 يضخون منذ سنوات مئات ملايين الدولارات سنوياً لشراء المنتجات البديلة لمنتجات الاحتلال في الضفة والقدس ، أو في التظاهرات والمواجهات التي نشبت مع الاحتلال في الناصرة وغيرها منذ بداية شهر تشرين الأول الفائت تفاعلاً مع ما يجري في الضفة والقدس المستندة بالضرورة للتقليد النضالي ليوم الأرض ، أو في شدّ الرحال إلى القدس، أو في العمل المسلح ضد الاحتلال مباشرة كما في العملية البطولية التي نفّذها شابان من النقب في محطة حافلات في بئر السبع يوم 18 تشرين الأول 2015 .
إنها، بجدارة، انتفاضة تشمل كل فلسطين، من غزة للقدس للجليل للنقب للضفة الغربية، وهي تجد تراجيعَ مرخَّمة لدى الفلسطينيين في الشتات، من دول الطوق إلى أقاصي الأرض ومغاربها، لكنها لا تزال بحاجة لدعم الشباب العربي في كل مكان، ليس من أجل فلسطين، بل لأن الحس القومي المتفاعل مع فلسطين هو وحدَه ما يمكن أن ينتشلنا اليوم من مستنقعات الصراعات الدموية، فدعم فلسطين يدعِّم الوحدة الوطنية الداخلية.
انتفاضة السكين والحجر اليوم، ربما لا تتمكَّن من تحرير فلسطين، فذلك يتطلب أطراً أكثر تبلوراً، وبرنامجاً سياسياً أكثر وضوحاً وتماسكاً، وقيادة وامتداداً عربياً، غير أنها تمثل، بشكلها الحالي، حالةً أكثر تقدّماً من كل ما هو سائد، حالة دفاعية حقيقية، وأداة ضغط على الاحتلال لا يجوز تمييعها في هراء «الحماية الدولية للفلسطينيين»، أو إعلان فارغ آخر للـ»استقلال»، أو احتواؤها وتمييعها في إطار «قيادة موحّدة» لا يملك أيٌ من أطرافها مشروعاً أفضل أو سقفاً أعلى من مشروعها وسقفها. إنها، ببساطة، أفضل أمل لنا اليوم، فدعونا لا نضيّعه بالمشاحنات الفصائلية أو مقتضيات «الالتزامات الدولية».