تحالف الأنظمة «المعتدلة» مع الكيان الصهيوني
إبراهيم علوش
لعل التقارب العلني والسري بين الكيان الصهيوني والدول العربية «المعتدلة» أحد أهم ملامح المشهد الإقليمي في الأشهر الأخيرة بالذات، مما ينعكس في تعبيرات عديدة، منها مثلاً ما طالب به نتنياهو وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فريدريكا موغريني في دافوس في 21 كانون الثاني 2016، رداً على حملة المقاطعة الأوروبية لمستعمرات الضفة الغربية، «… بأن تتعامل الدول الأوروبية مع إسرائيل كما تفعل الدول العربية المعتدلة»! وبأن العلاقات الأفضل بين الكيان وتلك الدول هو ما يمكن أن يحسن علاقته بالفلسطينيين والمقصود ضمناً: بدلاً من مقاطعة الكيان !
يقوم الكيان الصهيوني من جهته باستثمار النزعة الثأرية العمياء المدمرة للذات التي تحرك السياسة السعودية أيما استثمار، إذ بات الخطاب الاستراتيجي الصهيوني يرسم خطواته الإقليمية على وقع «وحدة الحال» بين الكيان الصهيوني وحكام آل سعود في مواجهة «الخطر المشترك الذي تمثله إيران وداعش». ونستشف ذلك بوضوح من تقرير «التحديات الأمنية في القرن الحادي والعشرين»، الذي وضعه معهد دراسات الأمن القومي على موقعه في 31 كانون الثاني 2016، والذي كان مما جاء فيه: «تشكل إيران التهديد الرئيسي للمصالح الإسرائيلية، فيما تشاركنا العربية السعودية وشركاؤها مصالح مشتركة، منها الصراع ضد الدولة الإسلامية والقاعدة». كما نستشف مثل هذا التوجه أيضاً في مادة «إعادة تشكيل الشرق الأوسط» في العدد الأخير من مجلة The Jerusalem Report نصف الشهرية التي تصدرها صحيفة «جيروزالم بوست»، حيث كتب كوبي مايكل: «على إسرائيل أن تفعل كل ما بوسعها لتغذية الإمكانية الاستراتيجية الكامنة في التهديد الشيعي – الداعشي المشترك بينها وبين الدول السنية البراغماتية»!
لا بدّ من فاصل صغير هنا للتنبيه لمئات الرسائل الإعلامية الواضحة والضمنية مؤخراً، حول الخطر الداعشي المزعوم على الكيان الصهيوني. فالواقع يبقى أن داعش لم يفعل شيئاً ضد الكيان، وأن إرهابه تركز على العرب من الطوائف كلها والمسلمين السنة أكثر من الشيعة ، وبدرجة أقل بكثير على المدنيين الغربيين، وأن كل ما يقال في هذا الصدد مجرد «مخاوف» و«هواجس» بات من المطلوب منا أن نتعامل معها كحقيقة. وهو ما يعني شيئين في آنٍ معاً: 1 تنظيف داعش كقوة مناهضة للكيان الصهيوني، 2 تصوير الكيان الصهيوني لدى المواطن المرعوب من داعش وإجرامه المجنون كحليف موضوعي، وهو ما يشكل، بالمعية، تسويغاً لتحالف آل سعود معه!
إن مشكلة الكيان الأساسية كانت وتبقى: 1 الدول العربية المركزية في الطوق المحيط به، مثل مصر وسورية والعراق، ثم في الأطواق الأوسع، وصولاً لمملكة آل سعود نفسها والجزائر والمغرب، 2 القوى الاستراتيجية التي عبّأها حزب الله وجهّزها في مواجهة الكيان الصهيوني مما عطل دوره الإقليمي كشرطي للمنطقة فعلياً، كما تبين بوضوح منذ نصر عام 2006 على الأقل مما يجعل قوى حزب الله، من المنظور الاستراتيجي، من أهم عناصر الأمن القومي العربي في اللحظة الراهنة، 3 مقاومة الشعب العربي الفلسطيني الميدانية للاحتلال الصهيوني، وعلى رأسها المقاومة المسلحة، التي تمثل «انتفاضة السكين» آخر حلقة منها. ولذلك من الطبيعي أن تتمحور الاستراتيجية الصهيونية على: 1 تكسير الدول العربية المركزية وتفكيكها، 2 محاصرة حزب الله ونزع سلاحه، 3 تكسير مقاومة الشعب الفلسطيني، وتوجيهها نحو مسارات أكثر أماناً وأدنى سقفاً مثل «معركة المؤسسات الدولية»، وحملات المقاطعة السلمية بالتعاون مع «اليهود التقدميين» من أجل التخفيف من «عنصرية إسرائيل» وتحقيق «المساواة» في الحقوق مع الغزاة على طريقة جماعة الـBDS!!!
لقد جاء الحديث عن «الخطر الإيراني الداعشي» المشترك على الكيان الصهيوني والدول العربية «المعتدلة» في هذا السياق، وقد اشتعلت قصة «التهديد الداعشي لإسرائيل» قبل أكثر من شهرين، خصوصاً بعدما ظهر الفيديو الذي قال فيه الكاتب توماس فريدمان، بعد زيارة للرياض التقى فيها بعدد من كبار المسؤولين والأمراء، أن السعودية مرعوبة من قيام داعش باستهداف «إسرائيل»، مما يمكن أن يطيح بالتحالف العربي السني، بمعنى أنه يُحرجه، على حد قوله بالصوت والصورة. إذن، يصبح منع داعش من مهاجمة الكيان «مصلحة» رسمية عربية، ويصبح أمن الكيان «ضرورة عربية»! والحقيقة هي أن قيام داعش ببضع عمليات شديدة الوهج الإعلامي قليلة التأثير الاستراتيجي على الكيان بات ضرورة موضوعية بالنسبة لها ولتعزيز التحالف بين الكيان الصهيوني وحكام السعودية، ولكن المشكلة أن وسائل الإعلام الرئيسية باتت تتحدث عن «خطر داعشي» داهم على الكيان حتى قبل حدوث ذلك! ونذكر هنا بما أشار إليه تقرير معهد دراسات الأمن القومي من أن أحد أهم التطورات في صناعة الأحداث اليوم بات «الاستخدام المكثف للصورة والتأثير في الوعي كأداة لتحقيق الأهداف السياسية والعسكرية».
الأمر الآخر الضروري لتعزيز علاقة الدول العربية «المعتدلة» هو طريقة إدارة الملف الفلسطيني من قِبل اليمين الصهيوني المتطرف في الحكومة الصهيونية، وهنا يقترح تقرير معهد دراسات الأمن القومي المذكور أعلاه اتخاذ إجراءات للتقارب مع العرب الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 48 وتحسين ظروف حياة الفلسطينيين المعيشية والاقتصادية في الأراضي المحتلة عام 67 و«تهيئة الظروف لتسوية سياسية»، مما يحمل «إمكانية كبيرة لتغيير منزلة إسرائيل الإقليمية وميزان القوى الإقليمي، وهو ما يمكن اعتباره تطوراً إيجابياً اعتماداً على سلوك إسرائيل إزاءها». فالمطلوب هنا هو بعض الليونة الصهيونية في إخراج مشروع التهويد في الضفة والقدس، لا أكثر! وهو ثمنٌ قليل لحفظ ماء وجه الدول العربية «المعتدلة» المتقاربة مع الكيان، لكن لا حياة لمن تنادي، إزاء التعنت الصهيوني، لحس الحظ! ولا يمكن النظر للمبادرة الفرنسية لإعادة إحياء المفاوضات الأزلية بين الكيان والسلطة الفلسطينية إلا ضمن سياق تعزيز التحالف «العربي المعتدل» مع الكيان، ومن هنا الأهمية الإقليمية لانتفاضة السكين التي باتت تشكل حجر عثرة حقيقياً في وجه ذلك المشروع.