راجي بطحيش: يشعر «الإسرائيليّ» بأنّه غريب في المنطقة ويغار من أصالة الفلسطينيّ وشاميّته
كتب عمّار المأمون من الناصرة: تحضر أطياف الكونت لوتريامون في نصوص راجي بطحيش، إذ نقف أمام عالم جديد يتحدّى فيه الشاعر الفلسطيني العنف الرمزي الذي يفرضه الكون على حساسيته تجاه الظواهر. راجي بطحيش من مواليد الناصرة عام 1970 أقام عدداً من الورش للكتابة الإبداعية، وصدرت له عدة دواوين شعرية، منها «الظل والصدى»، و«العري وقصائد أخرى»، إلى عدد من المجموعات القصصية مثل «ملح كثير… أرض أقل».
كتب بطحيش الشعر والقصة والنثر وحتى المسرح، لكننا نلمس دلالة رمزية لعبوره إلى الأنواع الأدبية في نصوصه، كحالة كتابه «بر- حيرة- بحر» وهو من نوع »بورتريه منثور». إلاّ أن بطحيش يرى أنه لا يكتب المسرح بالمعنى الفعلي، ولا يعرف حتى كيف يكتب الآخرون مسرحاً، ولا يملك تقنيات الكتابة المسرحية، لكنه يرى أن ثمة نصوصا نثرية فنية تتطلب منه مسرحتها أو إعادة صوغها ضمن عمل راقص أو «فيديو آرت» وما إلى ذلك.
يعتبر الشاعر نفسه فناناً أكثر منه كاتباً، فالكاتب في رأيه فنان، لكن الناس،وخاصة في أوساطنا الثقافية، لا يدركون ذلك أو لا يريدون الاعتراف به، لذا نجده يتصرف كفنان ينتقل بخفة بين النثر والشعر والسرد، وأحيانا ضمن نص واحد في ما يعرف بالتداخل النصي. يهمه العمل النهائي وليس تعريف النوع الأدبي، إذ يرى نفسه ضمن سائر التعريفات وحدودها، إن شخصياً أو مهنياً وفنياً، وأبرز مثال على ذلك كتابه «بر- حيرة بحر» الذي يأسف لانشغال النقاد في حيرة تصنيفه أكثر من اهتمامهم بالعمل نفسه.
ما يكتبه بطحيش هو اقتحام للكون، ومحاولة لتأسيس حضور جديد وتكوين علاقات جديدة بين عناصر هذا الكون، فهو يحاول في نصوصه -ولا ينجح دوماً في اعتقاده- تكسير علاقات القوة التي يفرضها المنتصر على المهزوم، إذ يعتبر أن المهزوم أو الضعيف لا يملك إمكان اختيار شكل آخر من العلاقات التي فرضت عليه، فتغدو بذلك علاقات مقدسة وعضوية ولدنا معها، وهي مفهومة ضمناً ولا يمكن تفكيكها.
ينبع ذلك، في رأي الشاعر، من نظم المعرفة التي يتحكم فيها القوي كي يمعن في قوته. ويؤكد قائلاً: «إن النص الأدبي يسعه تقديم اقتراحات جمالية لانتهاك نظم العلاقات المفهومة ضمنياً بين الأشياء، خاصة النظم الأخلاقية التي يضعها القوي الطاغية وفق هواه، ووفق ما يخدمه ويخدم بقاءه وبقاء فكرته».
حول علاقته مع «الإسرائيلي» جسداً ونصاً، يشير بطحيش إلى أن العلاقة بين «الإسرائيلي» والفلسطيني في مناطق 48، خلافاً للضفة الغربية وغزة، شديدة التداخل، في العمل والجامعة والدوائر الرسمية. لكن العلاقات تجري عادة على أرضية هائجة من التوتر والكراهية الصافية أحياناً، والرغبة في الهيمنة التي تحمل سمات استشراقية واضحة من قبل «الإسرائيلي» ومقاومة ذلك من الفلسطيني. ويضيف الشاعر قائلاً: «بعد 67 سنة ما زال «الإسرائيلي» يشعر بأنه غريب في المنطقة، وهو يغار من أصلانية الفلسطيني و«شاميته»، لذلك يحاول زعزعة هذا الانتماء الحضاري بواسطة الادعاء بكونه أي «الإسرائيلي» المتحضر الوحيد في الشرق الأوسط، وبأنّه من مجتمع غربي جلب معه الحضارة والحرية والرقي إلى الشرق المتوحش الصحراوي، لذا علينا أن نشكره على احتلالنا»!
أما في نصوصه فعلاقة بطحيش مع «الإسرائيلي» تغيرت مع العمر ومع تخمر الوعي وتحولت من الإعجاب والتبعية إلى الخوف، فالكراهية الممزوجة بالشعور بالذنب، إلى التجاهل والإيمان بالتفوق الحضاري والأخلاقي النابع من أصالته وانتمائه إلى مجتمع أسس للثقافة الحضارية في شرق المتوسط.
يصف البعض نصوص بطحيش بأنها تثير الإزعاج للقارئ الملتزم، نظراً إلى التابوات التي يحاول كسرها في كتاباته. وحول المسافة التي يتخذها من المواضيع التي يتناولها يقول الشاعر: «بداية، لا أعرف ما معنى القارئ الملتزم! ملتزم بماذا تحديداً؟ لا تابوات أحاول كسرها، وإذا كانت هنالك تابوات، فهناك بالتأكيد من كسرها قبلي. كتبت عن المثلية، وكنت قرأت حديثاً عدداً كبيراً من الروايات العربية التي تحوي مواقف مثلية مفصلة وغاية في السلاسة، وآخرها رواية «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» لخالد خليفة. أما نصوص الجسد التي كتبتها فهي أجمل ما يمكن كتابته وأكثرها متعة للكاتب، فالقرب البصري بين الوعي والجسد لا يمكن تجاهله. لا يمكن تجاهل هذه الكتلة المادية العجيبة. أما بالنسبة إلى مسألة القارئ الملتزم الذي يحتكر الحقيقة فهو أول من ينبغي لنا حشره في الزاوية».
ثمة فجاجة وقسوة في نصوص بطحيش وتغن بالقذارة، في محاولة لاستدراج شعريتها، إذ يعتقد أن هناك سعياً منا كبشر إلى إيهام أنفسنا بأننا نسير على مسطحات معقمة نسيطر عليها، لكننا في الحقيقة نعيش ونمشي على أكوام فعلية ومجازية من الجراثيم والقذارة، كما أن هنالك قذارة كبيرة في داخلنا. فالإنسان، في رأيه، مستعد لإلقاء قنبلة على مدرسة، والعودة إلى بيته بنبل شديد لملاعبة أطفاله. لكنه غير مستعد لمشاهدة صور أشلاء الأطفال في الليل عبر التلفزيون، لأنها تؤذي حسه المرهف. علينا فضح هذه الثنائية من النفاق عبر مواجهة القذارة.
تتسم نصوص الشاعر بتعرية ما هو قائم، في محاولة لفضح ما هو خفي وشبقي، إذ يتخذ موقف النزق من الكون وعلاقاته، ويعود ذلك في نظره إلى أن العدو الأكبر للإنسان هو إيمانه بأن القائم هو الأفضل له والأنسب لحياته، وأنه لا يستحق أصلاً أكثر مما هو عليه. يقول بطحيش: «ثمة طبقات أعمق ومنافذ أخرى للخلاص، ومن وظيفة أمثالي كشفها، رغم أنني أعترف بأني في حياتي اليومية أتواطأ كثيراً مع ما هو قائم لخدمة مصالحي المادية أساساً، فنحن لا نستطيع أن نكون مبدئيين حتى النهاية، وهنا تكمن المفارقة، لكني أحاول على الأقل في مستوى النص».
تشهد غزة اليوم عدواناً وتسلطاً لآلة القتل، وعن دور المثقفين والكتاب حيال ما يحدث، وحول سطوة الكلمة أمام قوة الرصاص يعقب بطحيش: «وصلت ويا للأسف إلى نتيجة في خضم العدوان الحاصل على غزة، أنه لا دور يذكر للمثقفين في هذه الحالة. ما يحدث أقوى من أي كاتب أو مثقف، فالكل يسعى إلى تحقيق مخططه بأكبر عدد من التحالفات السياسية القذرة، ويا للأسف، يقاوم المثقف قهره على خلفية صور الأشلاء وجثث الأطفال بإطلاق ستاتويات فيسبوك»! ويرى أن بعض الكتابات المرحلية سيئة، وسرعان ما تنسى وتمحى من رصيد الكاتب، فالكاتب يحاول اللحاق بالحدث للإمساك به عبثاً. ويعتبر أن الأزمات في منطقتنا، تحديداً في فلسطين وسورية والعراق، تتمّ وفق سيناريوات نحاول أن نظهر أننا نفهمها، لذا نقع في فخ الابتذال بدلاً من أن نناضل دفاعاً عن وجودنا وعن حضارتنا ولغتنا وثقافتنا وحريتنا الشخصية والجنسية، وعن حضورنا في الحيز العام.