سعاده في الردّ المبكر: «سايكس ـ بيكو» مقدّمة «وعد بلفور» – 2
د. محمود شريح
وبعد عودته من المغترب القسري في الثاني من آذار 1947 وانصرافه إلى إعادة ترتيب بيت الحزب السوري القومي الاجتماعي وجّه سعاده رسالة في 2 تشرين الثاني 1947 إلى القوميين الاجتماعيين والأمة السورية في صدد وضع فلسطين وحالتها الحاضرة، فأعلن أنه «يجيء هذا اليوم فتشعر الحركة القومية الاجتماعية كلها بألم شديد من الطعنة العميقة التي طعنت سياسة بريطانيا العظمى، في الحرب العالمية الأولى وفي مثل هذا اليوم من سنة 1917، الأمة السورية بها. ولكن هذه الحركة العظيمة لا تبكي من ألمها ولا تصرخ ولا تئنّ ولا تتأوّه، بل تزداد إدراكاً لقيمة قضيتها وفهمها لنظامها وتمسكاً بعقيدتها ورسوخاً في إيمانها بقيادتها ومصيرها، فتقف قوة عظيمة، جبارة، تحدّق في الكون وتتأمّل في المحيط والمسائل وتعدّ النفس لعمل خطير هو: تغيير وجه التاريخ! في هذا اليوم نذكر أيضاً، والألم يدفع الألم، إنّ وعد بلفور لم يكن الطعنة الأولى ولا الطعنة الوحيدة التي نفذت في جسم الأمة السورية في ما مرّ من هذا القرن. فقد سبقتها طعنة ولحقتها طعنات! كانت الطعنة الأولى حين اتفقت بريطانيا العظمى وفرنسا وروسيا، قبيل الحرب العالمية الأولى، على اقتسام السيادة والنفوذ في سورية بعد انتزاعها من تركيا، وحين أبدلت بالاتفاق المذكور معاهدة سايكس بيكو السرية، سنة 1916، التي تمّ التعاقد فيها بين بريطانيا العظمى وفرنسا على اقتسام سورية في ما بينهما عند خروجهما من تلك الحرب ظافرتين. بينما كانت سورية تتخبّط في خطط رجعية، مبنية على غير حقيقتها هي، للتخلص من سيادة الأتراك، وتفعل كلّ ما في وسعها لنصرة «الحلفاء»، كانت بريطانيا العظمى وفرنسا تنظران إلى سورية نظرهما إلى قسم من تركة «الإنسان المريض»، الذي عبّروا به عن تركيا، وتتفقان على اقتسامها في ما بينهما في جملة أسلاب الحرب! بعد معاهدة باريس المذكورة، بين بريطانيا العظمى وفرنسا، التي قسّمت سورية إلى مستعمرتين أو منطقتي نفوذ، الواحدة بريطانية وتشمل فلسطين بشرق الأردن الذي لم يكن له نطاق يحدّه وما بين النهرين العراق ، والثانية فرنسية وتشمل الشام التي كان يدخل فيها جبل لبنان ، أصبحت كلّ واحدة من هاتين الدولتين تعدّ نفسها مالكة للقسم السوري الذي نصّت المعاهدة على أنه من نصيبها وصاحبة الحق الشرعي فيه. ولم تكن لسورية، في ذلك الوقت، نهضتها القومية الاجتماعية المثبتة شخصيتها وحقوقها، فلم تتمكن من الوقوف في وجه تلك المساومات الغريبة والصفقات المنكرة، ولا من إعلان بطلان كلّ تسوية أجنبية سياسية حقوقية على حسابها». وعليه يرى سعاده أنه على أساس معاهدة سايكس بيكو، وقبل انتهاء الحرب وقبل وضع بريطانيا العظمى وفرنسا يديهما على سورية بالفعل، رأت السياسة البريطانية انه لا يوجد ما يمنع بريطانيا من بيع فلسطين لليهود بثمن تحتاج إليه لتقوية نفسها في الحرب، وأنه من هذه النظرة السياسية نشأت فكرة التفاهم مع اليهود بواسطة ممثلي الحركة اليهودية الصهيونية ، وأنه على أساس هذا التفاهم أعطى وزير خارجية بريطانيا العظمى، اللورد بلفور في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، وعد بريطانيا لليهود بتمكينهم من إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، الذي أصبح يُعرف بتصريح بلفور، وفي سورية خاصة، بوعد بلفور.
هذا الوعد في عُرف سعاده تصريح اعتدائي على وجود الأمة السورية وعلى سيادتها وحقوقها، ومجرد إعلانه كان يجب أن يكون سبباً لإثارة نقمة الأمة السورية واحتجاجها ومقاومتها، ولكن الأمة السورية، في ذلك الوقت، كانت جسداً بلا روح. كانت لا تزال صريعة الحزبيات الدينية المتحمّسة وضحية أحقادها الوبيلة. حزبيات المحمديين والمسحيين والدروز. أحقاد المحمديين والمسحيين والدروز. وأنه لم يكن في سورية، في ذلك الوقت، وعي قومي ولا نهضة قومية. كانت أولى اختلاجات توقها إلى الحرية والنهوض، واختلاجات العقلية الرجعية التي لم تكن ترى غير الرجوع الى حالة ماضية عارضة وأنه لم يكن لسورية أمر ولم ير أول الناشطين أنه يجب أن يكون لها أمر وأن يكون أمرها في يدها: «كلا. فالرجعة لم تكن تقدر أن تنظر إلى الحقيقة والى الأمام. كانت الأنظار تتجه إلى العربة بدلاً من الاتجاه إلى الأمة نفسها. وكانت الآمال تعلق على مكة وليس على دمشق وبغداد وبيروت والقدس. الرجعة كانت تقول: الخلاص يجب أن يأتي دائماً من الخارج!» على هذا الأساس قال سعاده إنه لم يخطر في بال أحد أن يفكر في إنشاء جيش سوري لتحرير سورية، ليس لأنه لا يوجد في سورية رجال يصلحون للحرب، بل لأنّ الرجعة كانت تجهل وجود حقيقة سورية. ولأنّ التفسّخ الروحي الداخلي وانقسام الشعب على ذاته في الحزبيات الدينية لم يجعلا ممكناً التفكير في إنشاء جيش سوري، فلم يكن معقولاً إنشاء جيش في سورية على غير أساس طائفي، وكانت خطط التفكير الرجعي بسيطة هينة: «إنّ سورية بلاد عربية، فالعروبة أساسها والعرب مرجعها فلنجعل مصير أمرها في يدهم ولنتجه إليهم!»
ثم يمضي الزعيم إلى تبيان تبعات وعد بلفور، أيّ لواحق تصريح بلفور فيلحّ على أنه لم تكن بريطانيا العظمى وفرنسا تحتاجان، في الحرب العالمية الأولى إلى مساعدة اليهود قط، بل إلى مساعدة كلّ امة كلّ شعب كبيراً كان أم صغيراً. فوعد سياسيوها السوريين وعوداً براقة بالاستقلال ولكن وعودهم لم تكن مسجلة في وثائق رسمية ولم توجد حركة سورية قومية تطالبهم وتفاوضهم وتتفق معهم على المساعدة والاستقلال وعلى تسجيل ذلك في وثائق رسمية كوثيقة تصريح بلفور، وانه على عكس السوريين كان المصريون والعرب كلّ أمة منهما قامت بقضيتها الخاصة. فلا المصريين اعتمدوا على السوريين أو العرب لتثبيت حقوقهم وتوطيد أمرهم ولا العرب اعتمدوا على السوريين أو المصريين أمرهم.
كانت هنالك قضية مصرية وقضية عربية ولكن لم تكن هنالك قضية سورية. ولذلك لم يكن للبريطانيين والفرنسيين أن يتعاقدوا مع السوريين في حرب 1914 1918.
وإنه بعد أن اتفقت بريطانيا ومصر على استقلال مصر وتنظيم العلاقات بين الأمتين، وبعد اتفاق بريطانيا مع اليهود على إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، وبعد فشل المحاولات الهزيلة لإنشاء قضية سورية مبتورة، مستعجلة، رأى البريطانيون الاتفاق مع العرب مع شريف مكة الحسين، ومع سيد نجد عبد العزيز آل سعود. وكان شريف مكة على اتصال بالسوريين، الذين، لأنهم لم يكونوا قد تمكنوا من تأسيس قضيتهم القومية، اتجهوا إلى الشريف. فأخذ يخطط بناء امبراطورية يكون هو وورثته أباطرتها ويكون أولاده ملوك جهاتها. وكانت سورية أو بعض أجزائها من جملة ما كان يجب أن يدخل في امبراطورية الحسين. ووافقه على تخطيطه بعض الذين قاموا يشتغلون في السياسة من السوريين.
هنا يخلص سعاده إلى أنه هكذا بقي السوريون بلا قضية قومية مستقلة وبلا أمر ولا أهداف، وفاتتهم فرصة من أثمن الفرص التي يمكن أن تمرّ في تاريخ أمة من الأمم.
أيّ أنه رأى في ذلك استمرار الشلل السوري فلم يؤسّس السوريون قضيتهم القومية قبل الحرب العالمية الأولى، ولم يتمكّنوا من اغتنام فرصة تلك الحرب لإنشاء دولتهم فبقوا بلا قضية ولا دولة إلى ما بعد تلك الحرب، وعملاً بالقاعدة التي اعتمدتها الرجعية المفلسة، القائلة: مصير سورية يقرّر دائماً في الخارج فأصبحت سورية تحت رحمة الإرادات الأجنبية البحت.
الرائي سعاده
على هذا النحو رأى سعاده أنه انتهت حرب 1914 1918 وجاء الاحتلال المثنى البريطاني الفرنسي، ودخل مصير سورية في مؤتمر الصلح الذي لم تمثل فيه قضية سورية صحيحة، ولما لم تكن هناك قضية سورية كلية قائمة بنفسها لم يكن من يقف في وجه ادّعاءات اليهود ومطالبيهم ومساعيهم الانترنسيونية، ففازت قضيتهم في مؤتمر الصلح فوزاً كبيراً على حساب حقوق الأمة السورية ووحدتها ومصيرها:
«وبتأثير بنود ولسن الأربعة عشر تحوّل الاستعمار البريطاني الفرنسي لسورية إلى «انتداب» من قبل «الرابطة الأممية» فكان لنا انتدابان: بريطاني في الجنوب الغربي والشمال الشرقي، وفرنسي في الشمال الغربي. في ذلك الوقت، وانا بعد في دور المراهقة، جمعتني الصدف بجلساء من وجوه بيروت يتناقشون في هل يكون البريطانيون أفضل لاحتلال البلاد أم الفرنسيون. ومن غريب الصدف أنّ أولئك الكبار طلبوا رأيي في الجدل القائم في ما بينهم فأبديته وكان صريحاً قوياً. قلت لهم إنهم جميعاً في ضلال وخطأ، واني أرى الأفضل نهوض الأمة لتولي أمرها بنفسها. دهش الحاضرون وسكتوا. كانت السنة 1919 وأنا في الخامسة عشر من عمري».
انتبه سعاده إذن منذ قرابة قرن إلى أنه لم تشعر الأمة السورية بخطورة ما حدث. والكتاب القلائل، أو النادرون، الذين كان لهم نظر في الأمور وبعض الوعي القومي وكتبوا في هذه المواضيع وحاولوا تنبيه الأمة إلى حالتها الخطرة لم تصل كتاباتهم إلى الشعور العام، لأنّ البلبلة كانت عظيمة، إذ طغت على شعور الأمة وفهمها القضايا المحلية والأغراض الخصوصية والحزبيات الدينية، ففي دمشق حصل تصادم، في عهد الأمير فيصل بن الحسين العربي، بين الشاميين والعراقيين. كانت أسباب ذلك التصادم النظرة المحلية والمسائل الخصوصية أو الشخصية والحزبية الدينية. ولم يمكن توحيد النظر بين الشاميين والعراقيين لأنّ حزبية السنيين في الشام وحزبية الشيعيين في العراق كانتا أقوى من كلّ قضية وموضوع آخرين. وفي لبنان ظهرت حزبية المسيحيين ظهوراً جلياً. وفي فلسطين نشطت حزبية السنيين وفي بعض أنحاء الشام نشطت حزبية العلويين في سلسلة الجبال المكملة لجبال لبنان وحزبية الدروز في جبل حوران.
إذن كان التفسخ الروحي والتفكك القومي بالغاً أعظمه، في سورية الطبيعية. فوجد الاحتلال البريطاني الفرنسي الذي خلف الاحتلال التركي أفضل حالة لتثبيت قدمه وتنفيذ السياسة الاستعمارية المقرّرة. كلّ اختلاجة من اختلاجات الحياة السياسية في سورية كانت خصوصية في أساسها، خصوصية في مراميها: دينية أو عشائرية أو محلية. كلّ فئة في جزء من أجزاء سورية عملت بمنهاج فئوي في دائرة محلية. وساعدت الإرادات الأجنبية هذا التفسخ الواسع. فقام العراقيون بقضية عراقية وقام الشاميون بدعوة إلى قضية سورية «بيزنطية» على أساس الخصوصيات الإقطاعية والدينية بدون تلبية عامة. وقام مسيحيو لبنان بقضية «لبنانية»، وعلويو النصيرية بقضية علوية، ودروز جبل حوران بقضية درزية، وفي فلسطين نشأت قضية فلسطينية وأنشئت قضية مثلها بشرقي الأردن.
وتفاقم الأمر: «فبينما سورية تتخبّط في قضاياها الجزئية كانت تركيا الموحدة الروحية والقضية العصبية القومية تتحفز للنهوض من سقطتها. وما أن أحدث مصطفى كمال باشا ثورته حتى وجه اهتمامه إلى منطقة كيليكية السورية الغنية. وقد تمكنت وحدة الأتراك من التعويض عن نقص القوة ومن اغتنام الفرص الثمينة. فلم يطل الأمر حتى سلّم الفرنسيون للأتراك تلك المنطقة السورية الثمينة التي هي من أغنى مناطق سورية وسلخت كيليكية الغنية عن جسم الوطن، والمسائل المحلية تشغل الأمة السورية عن قضيتها الكلية وعن صراع الحياة والموت مع الإرادات الأجنبية»!
إنّ استمرار الفوضى والتراجع في نظر سعاده إضافة إلى الكوارث الجسام التي مرّ ذكرها في ما تقدّم أبقى الأمة السورية في شلل تجاه إطباق القوات والمطامع الأجنبية عليها من الخارج، لأنّ الفئات التي تصدّت للمعالجة السياسية كانت كلها من النوع الرجعي، الديني أو الإقطاعي أو العشائري إذ إنّ كلها قامت تعمل عمل الشركات المحدودة الرأسمال والمحدودة الشركاء، فكلّ فئة شكلت نفسها تشكيل شركة خصوصية بكلّ ما في مدلول لفظة «شركة» من معنى. ومن جملة أغراض الشركات السياسية التي تألفت للعناية بالقضايا الجزئية في سورية وطرقها أن تسعى جهدها لاحتكار القضايا احتكاراً، فنشأت في كلّ جزء من أجزاء سورية شركة محدودة وفي بعض الأجزاء نشأت شركتان تحتكر العمل في الجزء الذي هي فيه. وكان من أسس الاحتكار أن تحدّد كلّ شركة نطاق الأرض التي تريد العمل فيه كما تحدّد الرأسمال المعنوي والمادي الذي تعمل به.
وخلص سعاده هنا إلى القول:
«هكذا تحدّدت قضايا ما بين النهرين والشام ولبنان وفلسطين وشرق الأردن وهكذا تحدّد العمل السياسي في كلّ منها. فلم تكن هنالك قضية واحدة تضمّ كلّ الأجزاء وتجتمع فيها كلّ القوى ويخطط لها عمل موحد. ولما كانت كلّ فئة قد حدّدت عملها في منطقتها فقد خرج من دائرة اهتمامها ما خرج عن نطاق مصالحها. فتجزأت قوى الأمة وتفرق أمرها وانفرد كلّ جزء بمهامه وشؤونه فلم تجتمع قوة الأمة وتنصب في مسألة من المسائل، ولم تقف قواها موحدة تجاه أيّ خطر عظيم. فذهبت كيليكية من غير مقاومة سورية عامة فلم تشعر بذهابها الأقسام البعيدة عنها، وتفاقم الخطر في فلسطين فلم تشعر به جميع المناطق الشعور الصحيح، وأشتدّ الخطر في الشمال على الإسكندرونة والحالة لم تتغيّر من الناحية القومية. فشؤون فلسطين كانت محتكرة ومحصورة في هذه المنطقة وفئتها السياسية، وشؤون الشام كانت مقتصرة على أهل الشام، وقس عليه بقية شؤون مناطق سورية».
التخبّط في قضية فلسطين القومية هو ما أرّق سعاده، ذلك أنّ عدم وجود نهضة سورية قومية قبل الحرب العالمية الأولى أو في أثنائها أوجد الأمة السورية في حالة شلل عام تجاه الأخطار العظيمة المحدقة بها وتجاه الإمكانيات غير المحدودة المتوفرة لها. فلم يكن لها بدّ من دفع جزاء تفسّخها وتجزئها القوميّين ولقد دفعته باهظاً في كيليكية ثم تعرّضت لدفعه في فلسطين والإسكندرونة وإنْ كان أهل فلسطين انفردوا بمعالجة المسألة التي تمسّهم أولاً وأهل الشام انفردوا بمسألة التوسع التركي في شمال سورية، فإنّ الأمة لم تكن قد شعرت بكارثة كيكليكية، ففي فلسطين قامت الفئة السياسية تعمل على أساس لا قومي. فإنّ العاملين هناك لم يعملوا على أساس الأمة السورية والوطن السوري وحقوق الأمة السورية ومصالحها ووحدة حياتها ومصيرها ووحدة وطنها، بل عملوا على أساس الاعتبارات التي هي ما وراء القومية على أساس الاختلاطات العربية: «فجعلوا أساس الحقوق القومية في فلسطين الفتح العربي، وجعلوا المستند الحقوقي لطلب إيقاف هجرة اليهود إلى فلسطين وعد بريطانيا العظمى للحسين باستقلال العرب. فأخرجوا الحقوق السورية القومية الأصيلة من أساس دعواهم واستندوا إلى اعتبارات خارجية لا تقوم مقام حق الأمة السورية الأصلي، وجعلوا بالتالي الحقوق السورية مشاعاً لجميع دول العالم العربي».
لذلك رأى سعاده أنّ مسألة فلسطين عولجت أسوأ ما يمكن أن تعالج به قضية ما، إذ قد وضعت حقوق السوريين الأصليين في البلاد على مستوى حقوق اليهود الدخيلين عليها، بجعل حقوق السيادة عائدة إلى العرب الفلّاحين بعد اليهود، بحجة واهية تقول إنّ العرب دخلوا البلاد بعد اليهود ولذلك هم أحق منهم بالبلاد!
على هذا الأساس يبني الزعيم رؤيته: فإذا كان العرب أحق من اليهود لأنهم دخلوا البلاد بعدهم أفلا يكون الأتراك أحق من العرب لأنهم استولوا على البلاد بعد العرب؟ أو لا يكون البريطانيون أحقّ من العرب والأتراك معا لأنهم استولوا على سورية من الأتراك في الحرب العالمية الأولى، ويكون بالتالي من حقهم أن يهبوها لليهود أو من يشاءون؟
أما في ما يخصّ تصريح بلفور فيرى سعاده أنه جرى الاحتجاج عليه على أساس سياسي لا على أساس حقوقي كما كان يحب أن يكون. فقد احتجت الفئة القائمة بالسياسة السورية في فلسطين على وعد بلفور ليس لأنه مخالف لمبادئ الحقوق، بل لأنه مخالف لوعد بريطانيا للحسين! وهذا يعني أنه لو لم تكن بريطانيا قد وعدت الحسين باستقلال العرب والعرب في العرف الانترنسيوني هم أهل العربة ولم يكن الحسين يمثلهم جميعهم ولو لم يكن العرب افتتحوا سورية بعد دخول اليهود إلى فلسطين لما كان للسوريين عامة والفلسطينيين خاصة حقوق أصيلة في فلسطين يجب أن يعترف العالم لهم بها!
إنّ قواعد العمل القومي في فلسطين وفي كلّ بقعة من بقاع الوطن السوري هذه هي في نظر سعاده هي قواعد فاسدة لا تضمن للأمة السورية حقوقها ولا تفتح أمامها طريق النهوض والتغلب على خطط الذين يريدون لهذه الأمة الموت والفناء: «وقد رأيت فساد تلك القواعد من زمان طويل ورأيت أنه لا يقوم أمر هذه الأمة إلا بمبادئ وقواعد صحيحة تجد فيها الأمة نفسها وحقوقها ومصالحها وطرق تقدمها وتفوقها. وباكراً جداً رأيت عقم السياسة والأساليب الوطنية المتبعة في فلسطين ورأيت أنّ جعل مسألة فلسطين مستقلة ومنفصلة عن مجموعة المسائل التي تواجه الأمة السورية كلها والتي يجب أن يعود البت فيها للأمة هو أمر باطل، وأشدّ بطلا منه إخراج المسألة الفلسطينية من نطاق قضايا الأمة السورية وحقوقها وحدها وجعلها من حق دول العالم العربي جميعها. فعملت جهدي لإصلاح الحال ولإيجاد الأساس الصحيح لقضية فلسطين ولجميع قضايا الأمة السورية».
مسألة فلسطين وقواعدها الحقوقية والسياسية
ثم يردّنا سعاده إلى سنة 1924 حين عالج في مقال نشره في «المجلة» في سان باولو، مسألة فلسطين وقواعدها الحقوقية والسياسية. ثم إلى سنة 1931 حين أنشأ رداً على خطبة للسياسي البريطاني القديم لويد جورج تناول فيها مسألة فلسطين وأوضح فيه أنّ قضية فلسطين هي قضية للأمة السورية وانّ سكان فلسطين هم جزء من هذه الأمة صاحية الحق الأصيل، الشرعي في فلسطين. ثم إلى سنة 1932، والحزب القومي الاجتماعي لا يزال نواة تتحرك في عوامل حياتها في الخفاء، ألقى خطاباً في حفلة افتتاح نادي طلبة الجامعة الأميركانية الفلسطينيين دعا الأمة السورية فيه إلى النظر في الخطرين الجنوبي والشمالي، الأول خطر النمو اليهودي في فلسطين والثاني خطر التقدّم التركي على حدودنا الشمالية.
وإلى سنة 1936 حين وضع بلاغه المعروف بالأزرق، الذي عالج فيه عدة مسائل وقضايا سياسية في الشام ولبنان وفلسطين وفيه أعلن حين عرض لقضية فلسطين، «أنّ وعد بلفور هو وعد سياسي لا حقوقي وانه ليس لليهود حقوق عامة أو خاصة في فلسطين». وإلى سنة 1937 حين وضع مذكرة الحزب القومي الاجتماعي رداً على تقرير لجنة اللورد بيل المشير بتقسيم فلسطين وقدّمها إلى العصبة الأممية، وفيها أوضح أساس المسألة الفلسطينية من الوجهة الاجتماعية المعبّرة عن حقوق الأمة السورية وأعلن أنّ الأمة السورية هي صاحبة الحق في فلسطين سواء كانت هنالك وعود بريطانية للحسين أو لغيره أو لم يكن. وهذه المذكرة صارت مثالاً لمذكرات هيئات أخرى اقتبست قواعدها ولم تعرف كيف تعمل بها!
هذه المبادئ والتعاليم والقواعد التي وضعها سعاده في الرسائل والكتابات المذكورة صارت أساساً لقضية فلسطين وقواعد للعمل لهذه القضية في الحزب السوري القومي الاجتماعي.
لكن سعاده يعلن بكلّ أسف أنّ الفئات السورية السياسية العاملة لقضية فلسطين بالأساليب الرجعية والاعتباطية لم تأخذ بعين الاعتبار وجوب التعاون مع الحزب القومي الاجتماعي، واستمرّ العمل الاعتباطي يسير على هواه مجازفاً بمصير فلسطين وبمصير الأمة السورية كله، وبأساليب العمل الاعتباطي حدثت «ثورة» 1936، التي لا يعرف إلا الله والراسخون في العلم لماذا ابتدأت ولماذا انتهت! «قيل انّ تلك الثورة قامت لمحاربة اليهود فلما قويت وضجّ لها السوريون في جميع أنحاء الأرض ألقت سلاحها تاركة «ملوك العرب» متابعة القضية بالطرق السياسية مع بريطانيا! تلك الثورة الاعتباطية قوّت شوكة اليهود وأفقدت الكثير من الدم الزكي والمال والمواسم. وعلى اثرها ازداد تسلح اليهود وامتدادهم في فلسطين!
ثم جرت سنة 1937 محاولة ثانية لتكرار تلك الثورة ولكن المحاولة ماتت في مهدها، لأنّ السلاح كان قد ذهب ولأنّ الرجال فقدوا الثقة بتلك الخطط الاعتباطية!»
عند هذا الحدّ يعلن سعاده أنه لا يتعرّض في هذا الاستعراض لأحد شخصياً، لأنه لا يعرف القضايا الشخصية، لكنه يتعرّض للقواعد والأساليب، ويتعرّض للكوارث القومية التي أنزلتها بنا تلك القواعد والأساليب الرجعية والاعتباطية، وليس فقط في كيليكية بل في فلسطين والإسكندرونة والعقبة وغيرها: «إني أقول إنّ الأهداف والخطط والقضايا التي قامت بها «النهضة الرجعية» في جميع مناطق الوطن السوري ودوله قد أنزلت بنا كوارث جسيمة ومكّنت الأخطار من وطننا وأمتنا. بينما النهضة القومية الاجتماعية تحارب حروبها الأولى من أجل تثبيت نفسها وعقيدتها وقواعدها، استمرّت «النهضة الرجعية» في عملها وأغراضها الخصوصية ومساومتها في كلّ مكان. وفي فلسطين استمرّت الحزبية الخصوصية سائدة حتى خرج الأمر من يد السوريين إلى يد «الجامعة العربية» تقرّر وتبتّ فوراً، وبريطانيا وأميركا وروسيا تصغي كلّ واحدة منها إلى حركة فلسطين الخصوصية حيناً وآناً إلى «الجامعة العربية» مختارة ما تحب ويوافقها أكثر».