من بعبدا «رسالة إيرانية – سورية» مشتركة: انتهى عهد النأي بالنفس
في الوقت الذي كان الرئيس السابق العماد ميشال سليمان يزور قصر بعبدا لتهنئة العماد ميشال عون بانتخابه رئيساً للجمهورية ناصحاً بالعودة لـ «إعلان بعبدا»، كانت طائرة وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف تتوجّه نحو لبنان من أجل تقديم التهنئة للرئيس عون ايضاً كأول زائر إقليمي رفيع المستوى الى بيت الشعب.
«إعلان بعبدا» الذي خصّص له سليمان حيّزاً اساسياً من روحيته للتذكير بأهمية «الناي بالنفس». وهو الشعار الذي استفزّ جزءاً كبيراً من اللبنانيين الذين يؤمنون باستحالة تماشيه مع ما يحيط بهم بالمنطقة، يبدو أنه عاد «ليخرج» مجدداً من قصر بعبدا تماماً كما «دخل» عبره.
تلتمس القوى الدولية والإقليمية جيداً أبرز ما تؤشر اليه اولى الزيارات التي يتلقاها الرؤساء المنتخبون حديثاً حول العالم، وأول الاتصالات الهاتفية التي تحمل غالباً تأييداً وترحيباً بالرئيس المنتخب وتسجل موقفاً بالسياسة الدولية، فأيّ حراك من هذا النوع لا يصرف بالسياسة الخارجية بدون إشارات أساسية تتعلق بالمرحلة.
يعيش لبنان اليوم رسمياً مرحلة الانتقال «الناعم» من محطة الى أخرى، هكذا وصفت مجلة «بيزنس انسايدر» الأميركية معنى وصول عون لرئاسة الجمهورية اللبنانية حتى قبل أيام من انتخابه، معتبرة ذلك «انقلاباً إيرانياً ناعماً في لبنان».
التحية الايرانية هي أول ضيوف قصر بعبدا بشخص وزير الخارجية محمد جواد ظريف الذي يستذكره كثر في معركة الاتفاق الأضخم في هذا العقد بين إيران والغرب، وهي معركة الاستحصال على حق إيران النووي واكتساب الشرعية الدولية.
رمزية الزائر تحمل مباشرة ما يحكي عنه اللبنانيون من نهار أمس، لا يخجل العماد عون بانتمائه لحلفاء أوفياء ينتمون هم أيضاً لمحور قوي يضمّ إيران إقليمياً وروسياً دولياً. وهو يدرك أيضاً انّ تأييد إيران لوصوله لرئاسة الجمهورية ودعمه لم يكن وارداً لولا نصرها النووي الأساسي الذي فرض توازنات كبرى في المنطقة، فبات هناك حلف صاعد طرق أبواب الغرب من باب «الشراكة» بصناعة القرار، وفي المقابل هناك حلف يتقدّم نزولاً ويخسر اعتماداً دام لعقود مع الغرب فيتصرّف على أساسها.
صحيح أنّ القاسم المشترك الدائم بين الحقبتين هو القوى الغربية وبشكل خاص «القوة الأميركية»، الا انّ هذه الأخيرة لم تعد كما كانت بالسابق بعد استنفاد هوامشها في منطقة الشرق الأوسط بحربي أفغانستان والعراق، بحيث أيقنت ضرورة التعاون مع ايران للتوصل لمخارج جدية فيها لتتأكد بعدها أنّ النفوذ الإيراني يمتدّ بشكل لا يسمح بتجاهله أكثر، وانّ سياسة عزل ايران لم تمنعها او تمنع حلفاءها من التقدّم السياسي العسكري.
كشفت الأزمة السورية للأميركيين أمراً أساسياً يتمثل بدقة ترابط المسار والمصير الإيراني السوري بشكل استعصى فكّه، فجلّ ما كان يطلب من الرئاسة السورية المتمثلة بالرئيس بشار الأسد من فترة الأعوام الممتدة 2002 حتى 2006 كانت التخلي عن التحالف مع إيران وصولاً للتكاتف من اجل اسقاط النظام عام 2011 مع الإبقاء على فرضية العدول عن ذلك بشرط التخلي عن ايران.
المسار والمصير المتشابك هذا بات مسلمة اميركية أخذت واشنطن نحو نوع جديد من الإدارة يتمثل بالامتثال للقوى المستجدة في الشرق الأوسط والتعامل مع المتغيّرات على أساس أنها قوى «أمر واقع»، خصوصاً أنّ ست سنوات من عمر الأزمة السورية كانت كفيلة بكشف ما هو اكبر وتوضيح الصورة بشكل أعمق. فالنفوذ الايراني الذي بدأ بحلف مع حزب الله في لبنان امتد نحو دمشق وصولاً للبحرين وبعض القوى بالمنطقة الشرقية في السعودية ليتوّج مرحلة التصعيد الإيراني بنفوذ كبير في اليمن.
انتهى عصر» النأي بالنفس» في لبنان بزيارتين منسقتين تعيدان النظر بالمصير والمسار الإيراني السوري المشترك. فقد زار أيضاً قصر بعبدا مهنئاً وللمرة الأولى منذ سنوات طويلة موفد شخصي من الرئيس السوري بشار الأسد هو وزير شؤون الرئاسة السورية منصور عزام بحضور السفير السوري في لبنان عبد الكريم علي.
نقل الوزير عزام إلى الرئيس عون رسالة تهنئة من الرئيس الأسد، مؤكداً عمق العلاقة بين الدولتين. وهي علاقة استغنت عنها الرئاسة السابقة عملاً بمفهوم المرحلة التي كانت حكمت إدارتها ومواقفها.
نجحت الرسالة الإيرانية السورية المشتركة في اليوم نفسه في إرساء طابع خاص يقرأ دولياً على أنه رسالة حضور وإثبات وجود وتأييد لمرحلة دخلها لبنان تكون فيها إيران وسورية داعمتين للعهد الجديد، حيث لم يعد ممكناً العودة إلى الوراء.
من بيروت أكد وزير الخارجية الإيراني على ما يجمع بلاده بلبنان، كاشفاً أنّ ما يجمع لبنان وإيران أمران أساسيان «قتال الإرهاب وقتال إسرائيل «. يدرك ظريف أن هذا هو خطاب الرئيس عون أيضاً وانّ لبنان «النائي بنفسه» لم يكن خياراً محبّباً لإيران.
يقول ظريف بالزيارة إنّ لبنان يتحمّل القسط الأكبر من تداعيات الأزمة السورية، وأنّ الفكر التكفيري المتطرف يستهدف شعوب المنطقة، رافعاً ملف مكافحة الإرهاب لسلم الأولويات الإيرانية.
تتوقع مصادر سياسية لـ «البناء» أن يدخل لبنان في الأيام المقبلة مرحلة أمنية حساسة ترفع فيها مسألة التعاون العسكري والأمني المشترك مع سورية والمحور الروسي الإيراني بشكل يجعل من مكافحة الإرهاب أولوية لا يمكن تخطيها لبنانياً مع ما يتوجّب تقديمه من دعم على أساسها بالتوازي مع معلومات عن قدوم موفد روسي رفيع المستوى قريباً الى بعبدا.