الغارات الإسرائيلية: الأهداف وحق الردّ
ناصر قنديل
– بعيداً عن لعبة تسجيل النقاط في السجالات السياسية بين مَن يقف في محور المقاومة، خصوصاً مع الدولة السورية وحزب الله كقائد للمقاومة، ومَن يقف في المحور الآخر الذي يبدأ من واشنطن ولا ينتهي بتنظيم القاعدة بعد المرور بالرياض وأنقرة وباريس، ولا مانع من إلقاء التحية فيه على تل أبيب، ويناصب دمشق والضاحية العداء، تفتح العمليتان الإسرائيليتان ضد سورية في مدى أيام باب نقاش منهجي واجب، يفرض استجلاء الأبعاد والمعاني والأهداف والاستنتاجات، ويفهم معنى الرد وحق الرد وموقعه في معادلات الردع والمسار الذي تريده الدولة السورية ومعها المقاومة لقواعد الاشتباك الجيدة التي رسمتها المواقف المعلنة بالردّ على كل عدوان.
– ثمة ثلاثة أبعاد متزامنة في العمليات لا يمكن فصل بعضها عن البعض الآخر، فهي تتزامن مع كلام واضح رادع للدولة السورية والمقاومة بوجه كل اعتداء إسرائيلي، وخصوصاً بوجه كل غارات جوية، وذلك منذ الغارات التي استهدفت مواقع سورية في القنيطرة وتبعها إطلاق صواريخ أرض جو سورية على طائرات إسرائيلية في الأجواء السورية، وأجبرتها على مغادرة الأجواء، والاعتداءات في معناها المباشر رسالة تحدٍّ واضحة على الأقل سياسياً وإعلامياً للموقف المعلن لسورية والمقاومة ومحاولة إحراج واستفزاز واضحة.
– البعد الثاني لهذه الضربات يتأتى من تزامنها المعنوي وليس الميداني مع التحوّلات العسكرية الجارية في حلب ومناطق سورية أخرى لصالح الجيش السوري والمقاومة، توصل رسالة مزدوجة، أولاها معنوية ترسم الاهتمام الإسرائيلي بما يجري، وتقول إن الانتصارات السورية على الجماعات المسلحة التي دعمتها إسرائيل علنا واستندت عليها في السعي لتخريب سورية وإسقاطها لا يجب أن يُفهم من قبل القيادة السورية والمقاومة ردعاً لإسرائيل ولجماً لمداخلاتها وتدخلاتها العسكرية، والثانية أنها تمنح المسلحين حيث يفيدهم ذلك جرعة معنوية ولو ضئيلة وغير فعالة لعدم ارتباطها بالاستعداد للتورط في دعم مباشر إسنادي لهم يغيّر مجرى المعركة، لكنها تقول لهم إن الدولة السورية ليست طليقة اليدين ولا تهيمن على المشهد العسكري الإقليمي هي وحلفاؤها، وإن إسرائيل لا تزال قوية وقادرة ويمكن الاستناد على قوتها إذا كان ذلك مصدر فائدة في المواجهات اليائسة التي تخوضها الجماعات المسلحة. لكن في الأعمق تبقى العمليات رسالة لسورية والمقاومة حول مرحلة ما بعد النصر على الجماعات المسلحة.
– البعد الثالث هو ما ترسمه تفاصيل العمليات، ومضمون الرسالة الاحترافية والاستخبارية التي تضمّنها، فهي لم تستهدف مواقع بعينها ولا تجمّعات ولا تجهيزات ولا قوافل ولا غرف عمليات، ولا يمكن رد ذلك لغياب القدرة على تحديد أهداف موجعة، بل للرغبة بتحييد الرسالة عن أي بعد من هذا النوع قد يوجب بذاته رداً فيفقد الضربات وظيفتها، التي لا ترمي لإلحاق خسائر واستهداف مواقع أو أسلحة ترتّب فتح مواجهة، بل لإيصال رسالة لها وظيفة أخرى، ليكون الرد على المضمون المقصود، وليس على الخسائر التي يوقعها العدوان. والتفصيل الثاني هو أن العدوانين جرى شنّهما بوسيلتين مختلفين واحدة بغارة جوية وثانية بصواريخ أرض أرض، وفي حالة الغارة الجوية تقصد الإسرائيلي الاستهداف من خارج الأجواء السورية، والالتزام بعدم انتهاكها، أي أن العداونين المتلاحقين اللذين لم يتقصدا هدفاً بعينه قالا عملياً إن إسرائيل مصممة على مواصلة رسم قواعد اشتباك جديدة في مرحلة الإنتشار الروسي في سورية ومترتباته ومرحلة النصر السوري على الجماعات المسلحة، تتيح لها ضرب أهداف في سورية، لكنها تأخذ بالاعتبار الرسالة السورية الرادعة المتصلة بمرحلة ما بعد دخول شبكة صواريخ الأس 300 والتغطية الروسية للأجواء السورية، وتلتزم عدم دخول الأجواء السورية، لكنها قادرة على تعويض النقص والخلل باعتماد وسيلتين جديدتين، هما الصواريخ أرض أرض والغارات من خارج المجال الجوي السوري، أما التفصيل الثالث فهو أن المدى الجغرافي لحركة هذين البديلين لتعويض عدم دخول الأجواء السورية يحدد بعداً إضافياً في قواعد الاشتباك، فصواريخ أرض أرض التي تمتلكها إسرائيل والتي لا تنتمي لفصيلة الصواريخ الباليستية، التي يتكفل استخدامها وحده بنشوب حرب صواريخ، يبلغ مداها الأقصى ستين كليومتراً هي المسافة التي تفصل موقع لإطلاق الصواريخ التي سقطت في محيط مطار المزة العسكري، من تلة أبي ندى في الجولان المحتل إلى مطار المزة، وهي ستون كليومتراً، مثلها كالمسافة بين نقطة توضع الطائرات الإسرائيلية التي أغارت من داخل الأجواء اللبنانية على منطقة الصبورة جنوب دمشق، والرسالة هنا هي عملياً عرض إسرائيلي لقواعد اشتباك جديدة تلتزم الخط الأحمر الذي رسمته سورية بالامتناع عن خرق الأجواء السورية، ورسم مدى خط أحمر عسكري هو قوس يرسمه عمق الستين كيلومتراً على امتداد خطوط حدود الجولان المحتل وعلى طول خط الحدود اللبنانية السورية، وواضح أن الأهداف محددة بالنسبة لإسرائيل لحالات اللجوء للعمل ضمن هذا النطاق، وهي كل ما يتصل بتواجد المقاومة من جهة، ونشر أسلحة كاسرة للتوازن مع إسرائيل ضمن هذا النطاق من جهة مقابلة.
– السياق العسكري التقني والاستراتيجي والتكتيكي للضربات الإسرائيلية، يوصل لتسجيل نجاح واضح لسورية في رسم خط أحمر يحمي الأجواء السورية، ويفتح باب السجال الميداني برسائل النار حول القواعد الجديدة التي أرادت إسرائيل رسمها. وهنا يمكن مناقشة حق الرد الذي تتمسك به سورية والمقاومة، بمعادلتين، الأولى شطب أي وظيفة للعدوان الإسرائيلي في معارك الجيش السوري والمقاومة مع الجماعات المسلحة عبر مواصلة الضغط على هذه الجماعات وصولاً لتحقيق الانتصارات الحاسمة، وهذا ما جرى ويجري في حلب وغيرها، والثاني وهو الأهم والأبعد مدى، رسم معادلة نارية قادرة أن تجيب على التحدّي الذي رسمته الضربات الإسرائيلية بتكريس حرمة الأجواء السورية من جهة، والانتقال إلى إلغاء أو على الأقل التضييق إلى أقصى حد للهامش الجغرافي لحركة النار الإسرائيلية برسم معادلة ردع توازياً دون الدخول في حرب من جهة مقابلة، وهذا تحد تخطيطي استخباري عسكري واستراتيجي أمام العقول القيادية للجيش السوري والمقاومة، لا يجوز أن يخضع الاختيار فيه لتوقيت الحركة الإسرائيلية أو لابتزاز السجال تحت سؤال، أين الرد؟
– الأكيد أن الرد مقبل، والأكيد أنه ردّ من عيار قادر على فعل ما فعلته عملية مزارع شبعا النوعية قبل عامين عندما حاولت إسرائيل رسم قواعد اشتباك جديدة في عملية القنيطرة.