يوم تاريخي لا تصنعه عظمة النصر وحدها يوم تاريخي لأنّ تاريخاً جديداً يبدأ في سورية والمنطقة
ناصر قنديل
– ثمة مَنْ يقتصر في رؤيته على القيمة التاريخية لما جرى في حلب على حجم النصر الذي يشكل بالفعل تحولاً نوعياً في موازين القوى، بحجم ما كانت حلب تعني في الحرب الدائرة منذ سنوات للسيطرة على سورية لجميع الفرقاء المنخرطين في هذه الحرب، ويصحّ فيها القول إنّ ما قبل حلب ليس كما بعدها. ومعلوم حجم ما تمنحه حلب للمشروع الذي أراد إسقاط سورية ودولتها ورئيسها وجيشها، من فرص وما كانت الرهانات على حربها، لكن هذا وحده لا يكفي لجعل اليوم تاريخياً، وثمة في المقابل مَن يُنكر تاريخية هذا اليوم ويسلّم بهزيمة مدوية لفريق ومشروعه ونصر كبير لفريق ومشروعه، لكنه يتوهّم وجود بدائل عسكرية لأنه يقتصر على فهم الذي جرى بحدود توصيفه لفائض القوة الموظف في الحرب وما يسمّيه بالإفراط في توظيف القوة متجاهلاً أنّ الثورات وحركات المقاومة صنعت معادلتين لا يمكن تغييرهما، الأولى أنّ حرب العصابات والحرب المتحركة وصفة لما قبل انخراط المعارضات المسلحة في حروب الجبهات لا في طريق الانهزام فيها، والثانية أنّ الحركات الأصيلة للمقاومة والثورات الأصيلة انتصرت على فائض القوة في حروب الجبهات الثابتة من كوريا إلى فييتنام وصولاً للبنان وفلسطين وانتهاء باليمن، ولا يفيد التذرّع بفائض القوة وحرب الجبهات والحديث عن حرب عصابات لإنكار الطابع التاريخي لنصر حلب ولما يفتتحه من مسار تاريخي جديد لسورية والمنطقة والعالم.
– الأهمّ في تاريخية النصر في حلب يتخطى سقوط الرهان على تقاسم سورية عبر بوابتي حلب شرقية وحلب غربية على طريقة برلين شرقية وبرلين غربية، وفقاً للعرض الأميركي الذي رفضته روسيا، والتقسيم لا يحيا لمجرد سيطرة عسكرية لداعش والنصرة على أجزاء أساسية من الجغرافيا السورية، بل بالمظلة الدولية التي تنالها هذه الجغرافيا، وحلب كانت فرصة الزواج بين جغرافيا وازنة استراتيجياً خارج سيطرة الدولة من جهة والمظلة الدولية والإقليمية من جهة مقابلة، وما تبقى اليوم خارج سيطرة الدولة السورية، هو مناطق تفتقد للوزن الاستراتيجي كتلك التي ينتشر فيها «درع الفرات» المدعوم من تركيا و«قوات سورية الديمقراطية» المدعومة من أميركا، وهي تحظى بالمظلة الدولية والإقليمية، ومناطق ذات وزن استراتيجي مثل الرقة وإدلب ودير الزور والحسكة تتقاسمها داعش والنصرة، لكنها لا تحظى ولم يعد ممكناً بعد نصر حلب الربط بين بعضها والمظلة الدولية الإقليمية المفترضة، بل يمكن القول إنّ آخر فرص هذا الربط الحيوية كانت مع معارك حلب وهنا كانت القيمة التاريخية لحرب حلب، كحدّ فاصل بين مشروعين، مشروع الربط بين الحرب على الدولة السورية بالتعاون مع جبهة النصرة في حال الفوز بحلب ولو كان سقف هذه الحرب تقسيم سورية إلى دولتين واحدة عاصمتها حلب تحت مظلة التحالف المناوئ للدولة السورية بدعم أميركي ورعاية تركية مباشرة وبالتعاون مع جبهة النصرة، ودولة عاصمتها دمشق تضمّ مناطق سيطرة الجيش السوري ومدعومة من روسيا وإيران والمقاومة تتفاوضان على حلّ سياسي بشروط جديدة لتوحيد سورية والأرجح قيام نظام فدرالي فيها وتتعاونان للحرب على داعش. وفي المقابل مشروع التفاهم الروسي الأميركي القائم على الحرب على النصرة وداعش بتعاون روسي أميركي تركي إيراني مع سورية كدولة ضمن مفهوم ضمّ الجماعات المسلحة المنخرطة في الحرب على داعش حصراً، أيّ درع الفرات تحت المظلة التركية و«قوات سورية الديمقراطية» تحت المظلة الأميركية، إلى الحلّ السياسي تحت سقف تشكيل حكومة موحّدة في ظلّ الرئيس السوري بشار الأسد تمهيداً لانتخابات نيابية ورئاسية، في حال خسارة حرب حلب، وها هم يخسرون حلب.
– خاضت تركيا خلال هذا العام بكلّ ثقلها حرب حلب، بمثل ما نصبت منصتها للفشل بتشكيل درع الفرات، كعنوان للحرب على داعش والتمدّد في جغرافيا سورية بديلة لخسارة حلب، وفي حرب تركيا للفوز بحلب استعملت تركيا المقدرات السعودية، والتغاضي ومساعي التفاوض الأميركية، والعلاقات المتجدّدة مع روسيا وإيران، ووفرت عبر كلّ ذلك كلّ ما يلزم لخوض حرب كاملة تضمن لها شروط النصر، وكان في حساب النصر الانفتاح على جبهة النصرة والسعي لدمجها في ي أي أي شروط تركية لاحقة للحل السياسي، لكن النتيجة حسمت الأمر والهزيمة وقعت، وانتصر مشروع الدولة السورية المدعوم من حلفائها روسيا وإيران والمقاومة، الذين وظفوا العلاقة مع تركيا والتفاوض مع أميركا لرسم مستقبل ما بعد نصرهم، خصوصاً عبر القناتين الروسية والإيرانية، لترتسم معالم المرحلة الجديدة من بوابة نصر حلب.
– بعد نصر حلب سقطت نظرية فصل المعارضة عن النصرة ونظرية معارضة مسلحة، خارج الذين يقاتلون تحت الراية التركية والراية الأميركية بوجه داعش، وحسمت سائر الجغرافيا الواقعة خارج سيطرة الدولة السورية كمناطق خاضعة للإرهاب، وصار مكان تسوية جغرافيا سيطرة درع الفرات و«قوات سورية الديمقراطية» في مسار سياسي لحكومة سورية موحدة في ظلّ الرئيس السوري تمهيدا للانتخابات، والمسار المقابل لضمّ الجغرافيا الأخرى الواقعة خارج سيطرة الدولة السورية، هو الحرب باعتبارها مناطق يحتلها إرهابيون يفترض أن يشترك الجميع في سورية وخارجها بقتالهم، وهذا هو على كلّ حال جوهر التفاهم الروسي الأميركي، مع فارق أنه كان يبقي للأميركيين والأتراك نفوذاً في حلب لو نجحت مساعي فصل المعارضة عن النصرة كما كان ينص التفاهم.
– اليوم تاريخي، لأنه يحسم خريطة جديدة للمنطقة والتحالفات، لا مكان لمشاريع التقسيم فيها، ولا مكان للحروب الإقليمية والدولية فيها، بل للتفاهمات والتحالفات، فقد ولت الفرصة للحرب التي كان يمكن خوضها من قبل أميركا وتركيا والسعودية، التي شطبتها نهائياً حرب حلب من الخريطة السورية، وماذا عساها تكون فرص خوض الحرب أهمّ وأكثر إغراء من معارك حلب وشروط الحرب فيها، ومن أحجم وتهيّب وأقام الحسابات وتبنّى خيار الانكفاء لن يخوض حرباً بعدها، ولن يوظف لما هو دونها فرصاً وأهمية ما وظفه فيها ولها وخسر، وفي المقابل سيواصل المنتصر في حلب حروبه بكلّ جسارة وبسالة وإقدام ليس بقوة معنويات المنتصر فقط، بل لأنه لن يتهيّب حرباً أقلّ خطورة بالمعنى الاستراتيجي لا العسكري الصرف، أيّ حرب لا خطر تدخلات دولية وإقليمية فيها وهو خاض بشراسة حتى النهاية حربه في حلب من ضمن مخاطر حرب تدخلات إقليمية ودولية، ولم يتهيّب الموقف وواصل حربه وانتصر.
– بانت في نصر حلب حدود القوة وخطوط القوة، عسكرياً وسياسياً واستراتيجياً، ورسمت خرائط الجغرافيا للنفوذ الدولي والإقليمي، وخصوصاً الأميركي التركي، الأقلّ من اللازمة للتقسيم والأكثر من كافية للتسويات، ورسمت خرائط القوة السورية المدعومة من الحلفاء، الأكثر من الكافية لتوحيد سورية والأقلّ من اللازمة لرفض التسويات، وطالما التسويات المطروحة من ضمن وحدة سورية وسيادتها وفي ظلّ مؤسساتها الدستورية وفي مقدّمتها رئاستها وجيشها، تتواءم التسويات مع وحدة سورية وينفتح تاريخ جديد عبرها للمنطقة ومعادلاتها وللعالم ومعادلاته.
– يوم تاريخي… وصف دقيق أطلقه الرئيس بشار الأسد.