ما بعد نصر حلب اللعب على المكشوف
سعد الله الخليل
بغضّ النظر عن الفصول النهائية للمغامرة الإرهابية في حلب، والتي كتبتها رحلة الباصات الخضراء، بإخراج من قُدّر له البقاء في أحياء حلب الشرقية من المسلّحين وعائلاتهم والتي لطالما رفضوها أكثر من مرة، وبالرغم من الإصرار الدولي على التوصّل إلى اتفاق، ولو شكلي، ينهي قصة ذلك التواجد المسلح، فقد فتحت تلك النهاية الأبواب أمام جملة حقائق تجعل من نصر حلب مفصلاً مصيريّاً في الأزمة السورية، وفي التعاطي الدولي والإقليمي مع المستجدّات السورية.
داخلياً، أنهى الاتفاق مرحلة الخروج المجاني للإرهابيّين من مناطق تجمّعهم إلى إدلب، المعقل الأخير لتلك الجماعات الإرهابية وخزّان التنظيمات القاعدية الهوى والهويّة بأسمائها وأشكالها المتعدّدة، من «جبهة النصرة» إلى «جيش الفتح» و«أحرار الشام» والقائمة تطول… فمع استنفاذ تلك الجماعات للفرص المتعدّدة للخروج بأقلّ الخسائر من أحياء حلب، ومع سيطرة الجيش السوري وحلفائه على ما يقارب 98 من مساحة المدينة عبر العملية العسكرية التي أطلقتها بعد فشل محاولات التسوية المتكرّرة. وبالتالي، فإنّّ خروج 2000 من المسلّحين في اللحظات الأخيرة ما قبل الانهزام لم يمرّ من دون مقابل، خصوصاً أنّ أكثر المتضرّرين من تجميع الإرهابيين في إدلب قريتي الفوعا وكفريا المحاصرتين، والتي يعاني أهاليهما من الحصار وقذائف الإرهابّيين في واقع أقلّ ما يمكن القول عنه إنّه مأساوي، ووصمة عار على جبين الإنسانية ومن يدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان، بالسكوت عن المذبحة الجماعية التي يتعرّض لها المدنيّون في البلدتين المحاصرَتين منذ نهاية آذار 2015، حين أطبقت الجماعات الإرهابية الخناق على البلدتين في محاولة لاقتحامهما لأسباب محض مذهبيّة، ولهذه الأسباب تصرّ المنظمات الإنسانية والسياسية والأمميّة بمبعوثيها على التغاضي عن أيّ طلب من الجماعات المسلّحة بالتخفيف من وطأة الحصار، أو السماح بدخول المساعدات الغذائيّة والدوائيّة للقريتين، وبالتالي فإنّ الاتفاق، وبالرغم من عرقلته بإحراق الحافلات المتوجّهة إلى البلدتين، وسواء نُفّذت مراحله الأخيرة أو توقّف، فهذا لا يخفي بأنّ الاتفاق فرض واقعاً جديداً مفاده أنّ ثمن خروج الإرهابيّين من حلب خروج الحالات الإنسانية والمدنيين، ولا مجال لاتفاق لمجرد الاتفاق، فنجاة المسلّحين من المواجهة العسكرية المحتومة النتائج، كان مقابل ثمن دفعته تلك الجماعات بالسماح بخروج لمدنيّي الفوعة وكفريا، بغضّ النظر عن صِحّة ما سُرّب عن وجود عدد من ضباط الاستخبارات الأجانب، ممّن كانوا يشرفون على المسلّحين ويدرّبونهم سعت تركيا لدى روسيا لإخراجهم، وفي الدخول التركي المباشر على خط التفاهمات المباشرة مع روسيا، بغياب الأميركي الذي فشل في التوصّل إلى تفاهم مع الجانب الروسي حول حلب، رغم الجولات المتعدّدة من المباحثات والاتصالات بين وزراء خارجية الطرفين والتسهيلات التي قدّمتها موسكو للتوصّل للتّفاهم، والذي تجلّت أبرز جوانبه بوقف الطلعات الجوية الروسية فوق حلب، وبالتالي فإنّ الخروج الأميركي من المفاوضات يمنح الجانب الروسي ما يثبت القدرة على المناورة، بمعزل عن الدور الأميركي الذي خسر بالعملية حصرية التفاوض الدولي حول المستجدّات السورية بشكلٍ عام، والحلبيّة بشكلٍ خاص.
وبغضّ النظر عن خروقات الاتفاق والعراقيل التي وضعتها التنظيمات الإرهابية وتوقّف عملية إخراج المسلّحين، فإنّ الاتفاق فتح آفاقاً جديدة في التعاطي مع القضية السورية، ما دفع موسكو للإعلان بأنّ إجلاء المسلّحين من حلب سمح فعليّاً بفصل المعارضة «المعتدلة» عن المتشدّدين، وهو ما بقيت تعتبره واشنطن طوال عام مهمّة مستحيلة وتنصّلت منه أكثر من مرة لتعلن موسكو إنجازه، فيما كشف مشهد حرق الحافلات من المجموعات المحسوبة على «فتح الشام» جبهة النصرة سابقاً والتي تحاول واشنطن ضمّها إلى المعارضة المعتدلة حالة التخبّط بين الفصائل الإرهابية على الأرض بعد موافقة «أحرار الشام» على الإخلاء.
ردّت روسيا الصاع الأميركيّة في تدمر لواشنطن صاعين في حلب، فالربط الروسي للتطوّرات الأخيرة في تدمر، وتقدّم «داعش» باتجاه عمق البادية الذي تعتبره موسكو منطقة عملياتها، ما كان ليتمّ لولا الإعلان الأميركي تعليق عمليّاته على الرقة حتى الربيع المقبل، وهو ما اعتبر شارة بدءٍ للتنظيم للانطلاق باتّجاه تدمر لوقف تقدّم القوات السورية في حلب، إلّا أنّ نجاح موسكو في إخراج المسلّحين من حلب شكّل الصدمة الكبرى لواشنطن التي خرجت من المفاوضات من دون أيّة غنائم، لإصرارها على رفع السقف التفاوضي وبالتالي ضرب بوتين باستعادة السيطرة على حلب السياسة الخارجية الأميركية، برفض المطالب الأميركية بتأمين ممرّ آمن للمسلّحين للخروج من حلب، ما يؤكّد نجاح استراتيجية موسكو الكبيرة في الشرق الأوسط، وتأثيرها وتحكّمها بالمنطقة أكثر من حلفاء أميركا.
في المطلق، سيؤثّر نصر حلب على مجمل الساحات السورية. فبعيداً عن قيمته الرمزية، فإنّه يعني أنّ الدولة السورية تسيطر على أكبر مركز تجاري والعاصمة الاقتصادية في البلاد، والإعلان عن تفوّق القوة العسكرية الروسية وفشل السياسة الغربية في هذه الأزمة، وبالتأكيد يتحمّل الغرب مسؤولية كبيرة عمّا حدث، خاصة أنّه شجّع المعارضة السورية والفصائل المقاتلة على رفض أيّة تسويات، وهو ما دفع الغرب لإفراغ ما بجعبته من أوراق ضغط على دمشق وموسكو، فأعادت فرنسا وبريطانيا جهودهما في مجلس الأمن من بوّابة اتّهام دمشق بارتكاب عمليات «قتل جماعي» في حلب، تستدعي فرض عقوبات جديدة، فيما أعاد الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إحياء مشروع المنطقة العازلة بتكلفة خليجية، ما يعني إكمال واشنطن على ما تبقّى في الخزائن الخليجية من أموال.
الصراحة الأميركية والغربية وصلت إلى بروكسل بإصرار الاتحاد الأوروبي على ضمان مقعد للمعارضة في مستقبل سورية، كشرط للمساهمة في إعادة إعمار سورية، وما التحذير الأوروبي من إنشاء كيان مشوّه من وجهة النظر الأوروبية سوى اعتراف بالتخلّي عن مشاريع إسقاط الدولة والقيادة السورية.
أجبرت التطوّرات المتسارعة في حلب وعودتها إلى كنف الدولة السورية الأطراف الدولية للكشف عن أوراقها المخفيّة في المشهد السوريّ، وباتت أمام خيارات اللعب على المكشوف في زمن لم يعد التخفّي وراء أيّ من القضايا مُجدياً.