اغتيال السفير حدّد المصير!
مصطفى حكمت العراقي
في أيام حافلة بالتطورات وفي ذروة الاشتباك الإقليمي والدولي، جاءت الرصاصات التي أطلقها ضابط الشرطة التركي، الذي كرّمه أردوغان في ما سبق، لتردي السفير الروسي لدى أنقرة، أندريه كارلوف، قتيلاً أمام أعين الجميع، في لقطات مروعة. فالسفير ليس سفيراً عادياً، فضلاً عن دوره الكبير في التقارب التركي – الروسي، في الأشهر الماضية، بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية من قبل تركيا. كما أنّ العديد من التقارير الإعلامية، وصفته بالعقل المدبّر للاتفاق الذي أدّى الى إخراج المسلحين من حلب الشرقية. كذلك، جرأة القاتل وملابسات قتله وعدم اعتقاله من القوات الأمنية التركية وهو الذي برّر بشاعة عمله صارخاً بالانتقام لحلب والثأر لزملائه الإرهابيين في «النصرة»، الذين انهزموا فيها، مردّداً شعارهم الزائف الله اكبر الله أكبر. وبطريقة مشاهد الإعدام نفسها، التي يبثها الإرهابيون في سورية والعراق وليبيا واليمن وغيرها. وبذلك، يرسم، هذا الاغتيال، لوحة جديدة من داخل معرض اللوحات الروسي، في أنقرة، تعبّر عن حجم المأزق في داخل تركيا ومدى تغلغل الإرهاب والفكر الاجرامي المتطرف، داخل مؤسساتها الأمنية والمجتمعية. فبعيداً عن أنّ المجرم هذه المرة، ضابط أمني رفيع، لدرجة تسمح له بالوقوف، منفرداً، خلف السفير الروسي، فإنّ أجواء التعبئة في داخل المجتمع الإخواني الموالي لأردوغان، ضدّ روسيا، أزدادت حدتها في الأيام الأخيرة، التي رافقت انتصار الدولة السورية وحلفائها في حلب.
ما قام به الضابط التركي، يثبت، عملياً، حجم الاختراق للمؤسستين العسكرية والأمنية في تركيا، من قبل جماعات متشدّدة وإجرامية، متهيئة وجاهزة لتنفيذ ما هو أعمق وأكبر من هذه العمليات. وقد تكون هذه العملية بمثابة إثبات وجود لهذه الجماعات. وهو الأمر الذي سيشكل هاجساً مخيفاً وكبيراً للحكومة التركية وهي التي تواجه تفجيرات إرهابية في كلّ يوم وفي كلّ مكان، في تركيا.
الرئيس الروسي بوتين، اعتبر في أول تعليق على مقتل كارلوف، أنّ حادث الاغتيال يعدّ استفزازاً، يستهدف العلاقات الطيبة بين روسيا وتركيا والتسوية في سورية، مؤكدا أنّ الردّ الوحيد على هذا الاغتيال، يكون بتعزيز محاربة الإرهاب. وأوضح المتحدث باسم الكرملين ديميتري بيسكوف، أنّ بوتين اجتمع بوزير الخارجية سيرغي لافروف ورئيس جهاز الاستخبارات الخارجية سيرغي ناريشكين ومدير جهاز الأمن الفدرالي الروسي ألكسندر بورتنيكوف، حيث استمع إلى تقاريرهم المفصلة بشأن اغتيال السفير. وشدّد بوتين على ضرورة معرفة من وجّه القاتل.
أردوغان بدوره، قال إنّ هذا العمل يستهدف ضرب مرحلة تطبيع العلاقات بين تركيا وروسيا. مشيراً إلى أن الإدارتين الروسية والتركية، تملكان الإرادة الكافية للتصدّي لهذا الاستفزاز. مضيفاً: «خلال اتصالي مع السيد بوتين بعد الحادث، توافقت آراؤنا على أنّ هذا الهجوم هو عمل استفزازي وليس هناك أيّ خلاف بيننا في هذا الخصوص». وتابع: «نسعى مع روسيا لإنهاء مأساة حلب وإخراج المحاصرين بداخلها. وعازمون على مواصلة التنسيق مع الرئيس بوتين بهذا الخصوص».
من الناحية السياسية، فإنّ الهمّ الأعظم المتمثل بسعي موسكو وطهران إلى حلّ الأزمة السورية وكسب الاتراك في ذلك واستثمار تجربة إخراج المسلحين من أحياء حلب الشرقية، فضلاً عن إعلان موسكو، الذي توافق عليه وزراء خارجية روسيا وايران وتركيا في موسكو، الداعم لحلّ سياسي سوري. واستمرار محاربة الإرهاب، خصوصا «داعش» و«النصرة» ومن تحت رايتهم. كما عبّر مولود اوغلو، بنفسه، في سياق القول بأنّ الثلاثي اتفق على دعم وقف شامل لإطلاق النار، يستثني «داعش» و«النصرة»، ما يعني أنّ التنسيق سيتمّ على إنهاء معركتي إدلب والرقة، بأقلّ الخسائر للدولة السورية وبرضوخ تركي، نظراً لما حصل سابقاً لأردوغان وحكومته وما سيحصل من تداعيات بعد مقتل السفير الروسي في قلب أنقرة. لتأتي صفعة قوية لصورة تركيا ومدى جاهزيتها الأمنية وانتقاص هيبتها عالمياً وتأثيراته الاقتصادية السلبية على اقتصاد البلاد، المأزوم اصلاً والذي يعاني من تدني معدلات الإنتاج الى مستويات قياسية، لم يصلها منذ مدة ليست بالقليلة. فضلاً عن ارتفاع البطالة وانخفاض قيمة الليرة التركية بشكل كبير، إضافة إلى تراجع الملف السياحي. وقد يتراجع أكثر بعد إغلاق عدد من البعثات الدبلوماسية وفي مقدمتها الولايات المتحدة، مكاتبها في تركيا، تحسّباً لاستهدافات، كما حصل مع السفير الروسي.
أما أردوغان، الذي سارع لاستنكار الجريمة والتبرّؤ منها، فضلا عن التسريبات الاعلامية والامنية المرتبطة به، بأنّ جماعة فتح الله غولن قد تكون متورّطة في الاغتيال، فضلاً عن الإعراب المستعجل للرئيس الروسي عن تعازيه وعزمه على الاستمرار في محاربة الإرهاب. كلها مؤشرات تؤدّي إلى أن اردوغان قد يجعل مقتل السفير نافذة يخرج منها، مما أدخل نفسه فيه، لجهة ارتباطه العضوي بالجماعات الإرهابية التي تقاتل في سورية والعراق. فضلاً عن لهجة وزير خارجيته في موسكو، التي تبشر بتوجه اكبر نحو روسيا. أما الردّ الأمثل لمن قام بهذه الجريمة، فهو التمسك بالتفاهم الثلاثي الذي كان يروم لإفشاله مدبرو هذا العمل. وهنا خياران، لا ثالث لهما، امام أردوغان، فإما إنقاذ نفسه بالتوجه نحو موسكو، أو انتظار مصير أسلافه بالسقوط وتنامي الإرهاب في بلاده.