مَن اغتال «السفير»؟
هاني الحلبي
تغيب جريدة السفير، مع إطلالة العام، عن قرائها وعن عرشها الذي تبوأته بحنكة مؤسسها ورئيس تحريرها الأستاذ طلال سلمان، ولمسات حشد من الكتّاب والأقلام والخبرات الذي لمعت أسماء معظمهم عبر صفحاتها.
غياب «السفير» مؤشر صارم وصارخ عن مصير الصحافة الراقية في اللادولة اللبنانية التي «نتمتع» بإهمالها الفادح!
يلفتني وجعُ الزملاء المهدَّدين بإقفال «السفير»، ولاحقاً بإقفال غيرها من المنابر الورقية، لتفسح المجال لصحافة اللحظة بسخافة مواقع التواصل!
كثيرون من الزملاء سيفقدون الراتب المُعِين، على قلّته في وحشة الغلاء، وسيفقدون العزوة عند حاجتها، من سلفة النقابة في المؤسسة، وسيفقدون دفء الزمالة التي استمرت أربعة عقود، ويعودون إلى بيوتهم بلا دعم نفسي يعيد التوازن.
ويلحّ السؤال مَن اغتال «السفير»، أي «ألطنطاش» كان كامناً خلفها بانتظار أمر القتل، فلما تلقّاه، سحب مسدسه فأرداها؟
لعله مَن بناها، فكانت جنى عمره، رئيس تحريرها طلال سلمان، الذي لم تطاوعه دموعُه منذ عشرين يوماً في لقاء مع مسؤولي الأقسام، ناعياً «السفير». أب ينعى أعز بناته إليه، فكيف لا تنعاها دموعُه؟ وفي اجتماع أول أمس مع الزملاء في «السفير»، قال لهم بحرص أبوي: كيف لا نوقف النشر، ولو تابعنا شهراً لعجزنا عن دفع الحقوق للعاملين والموظفين! حقوقكم مقدّسة، وهي أهمّ عندي من أيّ أمر. بدأنا كباراً ونتوقف كباراً بقرارنا!
لعلها وزارة الإعلام، التي تلقفت أزمة آذار الماضي في «السفير»، وثلاث جرائد أخرى، فدعت لدعم الصحافة الورقية، قال بعدها الوزير رمزي جريج، إنه بصدد تقديم مشروع مالي. مضت أشهر واختفى المشروع، وعبثاً كان يطلّ بخبر هامشي عابر! لكن عاد طلال سلمان ليعلن إمكانية الصدور مؤقتاً، من اللحم الحيّ، ما دام في العروق حبر!
لعلها نقابة المحرّرين، التي بادر نقيبها الياس عون، للطلب من أصحاب الصحف لحفظ حقوق العاملين والمحررين والموظفين، كما يرعاها القانون. وبذل ما استطاع إليه سبيلاً. ولكن تمّ صرف الزملاء وفقدوا أعمالهم!
لعله مجلس الوزراء، الذي راكم مئات البنود على جداول أعمال جلساته، منذ آذار الماضي، ولم يحُز مئات العاملين في الصحافة الورقية على ساعة من وقت وزرائه المتنازعين على كلّ شيء، بين الاعتكاف والاصطفاف! وما زالت الصحافة حتى الآن بلا صندوق دعم، وبلا حصانة مالية، وبلا تسهيلات، وتدفع الضرائب لأغنياء القوم وهي صاغرة!
لعله المال السياسي النفطي، الذي هو بطبيعته استعباد، يريدنا مجرد قطيع، نُمسك بأذيال بعض، يفرض علينا تجهيل الحقيقة. إخفاء أيّ انتصار مقاوم وإبراز بضعة مسلحين يستبيحون مدينة في الصفحة الأولى، أو جحافل النازحين الهاربين اللاجئين من شبه الوطن إلى جحيم التشرّد، أنّ هؤلاء هم نحن غداً!
لعله الفتى مارك زوغربيرج، عبر فيسبوكه الأزرق، إمبراطورية اللحظة العملاقة وماكينة التجسّس والاستراق، مع مملكاته الرديفة واتس، انستغرام، وغيرهما.. أو لعله ستيف جوبز، بتفاحته المقروشة، أو لعله الشاب الوسيم جاك دورسي، مؤسس موقع تويتر، بعصافيره الزرقاء وتغريداته المحدودة الأحرف، غيّروا العالم. قلبوا النفوس. أحدثوا ثورة التواصل التي لا مجال فيها للمحسوس والملموس. ولا تعيقها المسافة ولا الزمن ولا حدود المكان. دفعوا كل ما قبل عصر التواصل الألكتروني إلى الانقراض..
أم المجرمون هم الناس، قرّاء السفير، وقرّاء غيرها، الذين اغتصبت عيونَهم دهشةُ شاشات هواتفهم الذكية فأردتهم ضحايا إعجاب، فرأوا صحف الورق جديرة بعصر حجري بائد.
المتهمون كثر.. لكن المجرمين كثيرون. ما زالوا قيد المطاردة!
أن نفقد جريدة بمكانة «السفير» هذه جريمة حقيقية تستوجب الادّعاء والتحرّي والاستجواب والمحاكمة والبتّ والعقاب!
من هو كـ»السفير»، كمَعْلَمٍ وطني، يعني الوطن كله والشعب كله، ولا يعني حصراً مالكاً واحداً أو حفنة من رجال أعمال دخلوا غير مجالهم شركاء، فتسارع الانهيار!
والمَعْلَمُ الوطني تماماً كجبل صنين، كجبل حرمون، كبعلبك، كصور، كصيدا، كراشيا، كبنت جبيل، كبعبدا، كبيروت، كضريح جبران، كعرزال أنطون سعاده ودار الزعامة.. ممنوع أن يختفي ويسقط بين أيدينا ويزول قيد النسيان، بأي ذريعة وسبب!
لكن غياب «السفير» جرح مفتوح على وجع الكلمة. على وجع الناس. على وجع الوطن المكتوم القيد. على وجع الشعب المكتوم الصوت، العاجز عن التغيير!
غياب «السفير» اغتيال لبيروت التي ولو احتُلت، لكنها لم ترفع الأعلام البيضاء!
افتقاد هواش طلال سلمان، ونخبة الأقلام في الإصدار اليومي، وفي السفير الثقافي، السفير الاغترابي، السفير العربي، سفير فلسطين، السفير الفرنكوفوني وملاحق المصارف وشركات التأمين والجامعات… ورغم كلّ هذا الطيف الجميل هَوَت «السفير»!
… وأنتم شهود ومسؤولون!
لي كانت «السفير» أكثر من رغيف خبز. أهمّ من ضمان صحي. أعز من بطاقة تأمين.. كانت معقل الخبرة ومعهد التعلّم، والأسرة لعقدين ونصف من السنين. كانت معنى للحياة ووعداً للغد!
باحث وناشر موقع حرمون haramoon.com وموقع السوق alssouk.net