بوتين: إليكم «روسيا الجديدة»
روزانا رمّال
تخرج السياسة الروسية اليوم بشكل كامل من موروثات سادت لعقود صبغت حراكها السياسي بأوصاف «كالحدية» و«الانفعالية» التي لا تبدو أنها تقترن بواقعها رغم احتضانها بعض ممن يحملون عبء العظمة والمهابة والتاريخ كهالة للقوة الروسية في تقديم ثقافة البلاد وحضارتها ممن هم الى جانب القيادة الروسية وهم الذين يتمسكون بكل ما يحمي صورة بلادهم «المقدسة». هؤلاء هم مَن يراعي الرئيس الروسي غالباً مشاعرهم في الانتماء لدولة كانت قد عرفت ما يكفي من معاني التفوّق العلمي والتكنولوجي والسياسي في لحظات الهيمنة السوفياتية، وهم أيضاً الذين يحرص على ترويض نفوسهم أيضاً. لا بأس هنا من حمل هذا العبء الثقيل الى الأجيال المقبلة.
لكن أن يعمل الغرب الى استغلال هذه الحدية أو «العنجهية» الروسية، كما يصفها عدد كبير منهم كرؤساء تعاقبوا على الولايات المتحدة الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية حتى اليوم، فإنّ هذا استدعى التفاتة روسية دقيقة أخذها نحو ضرورة «التطبّع» مع المتغيّرات الدولية الكثيرة فلم تعُد السياسة الروسية «القاسية المعالم» الشيء الوحيد الذي تملكه القيادة، بل اقترنت بالصبر والهدوء والتروّي غير المحدود.
تفتتح السياسة الخارجية الروسية من بوابة الأزمة السورية عنواناً عريضاً للحراك السياسي الروسي الحديث ولعلاقاتها بالدول التي تجد فيها خصماً لدوداً وهي دول تكاتفت في سورية ضدّها ما استوجب أنّ حضورها العسكري المباشر الى سورية.
كشفت روسيا قبل كلّ هذا عن دور كبير للدبلوماسية لا يقلّ أهمية عن الحرب التي تديرها على الأرض السورية، وكشفت معها قدرتها على استدراج الخصم كالولايات المتحدة الأميركية نحو جولات كثيرة وكثيفة جعلت من واشنطن تبدو هي مَن يرفض الحلول السلمية والسبب أيضاً في استدراج روسيا نحو الأرض السورية.
لم تدخل روسيا عسكرياً إلى سورية في بداية الأزمة التي اندلعت عام 2011 بل دخلتها متأخرة جداً أواخر عام 2015، أيّ بعدما كانت اهمّ المحافظات السورية قد سقطت بالكامل بيد الإرهاب. في هذا الوقت عملت الدبلوماسية الروسية في كافة الأروقة السياسية الاوروبية والشرق أوسطية والدولية المعنية بالصراع بشكل أظهر اهتماماً شديداً منها وأولت حيّزاً كبيراً للحوار لإعطاء فرصة كبيرة لنجاح التسوية السياسية في سورية عبره.
عيّنت الأمم المتحدة للأزمة السورية أكثر من مبعوث لحلّ الأزمة فيها بدءاً من الأمين العام السابق كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي وصولاً الى المبعوث الحالي ستيفان دي ميستورا.
تعاونت روسيا بشكل كبير مع هذه الأسماء وأعطت مهلاً لكلّ منها وقدّمت كلّ الوثائق المطلوبة وبينها ما يدين الدول الغربية في دعم الإرهاب، معتمدة على ما تبقى من نزاهة أو عدالة دولية أولاً، ولإغلاق أي ذريعة قد تجعل منها خارجة عن القرار الدولي ثانياً، فهي واحدة ممن يمتلكون صوتاً دائماً في مجلس الأمن الدولي.
استفزار روسيا للجوء إلى العنف كان متعدّد الأشكال، أراد المجتمع الدولي أخذ موسكو نحو المجهول أكثر من مرة، عام 2011 حاولت الخارجية الأميركية تحريك المعارضة الروسية في الشارع والتدخل بالانتخابات حينها، مع تفجيرات إرهابية متنقلة بالأعوام 2011 و2012 و2013 و2014 طاولت أهدافاً حيوية عديدة. أزمة القرم المفصلية أفهمت روسيا انّ هناك من يودّ هزّ أمنها في عقر دارها، وأنّ الأمور تتقدّم نحو الأسوأ إذا لم تتحرك فكان الحضور لسورية أخيراً!
استطاع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صاحب الملامح «القاسية» أن يضع حداً لمهزلة اقتران «السياسة الروسية» بالانفعالية وقدّم نموذج «روسيا الجديدة» اليوم وتكثفت الشواهد التي تشرح عنها أكثر في آخر أيام ولاية اوباما.
طردت واشنطن 35 ديبلوماسياً من أراضي الدولة الأميركية… غضب الديبلوماسيون الروس مما اعتبروه «اهانة» كبيرة للسلك الذي ينتمون إليه ولانحدار مستوى العلاقة الأميركية الروسية مع هذه الإدارة، طالب وزير الخارجية أيّ «عميد» الدبلوماسية الروسية سيرغي لافروف من الرئيس بوتين أن يطرد هو الآخر 35 ديبلوماسياً أميركياً ومنع السفارة الأميركية في موسكو من استخدام اثنين من المباني التابعة لها.
لافروف هنا.. يشبه أؤلئك الذين يعرفون معنى «العظمة» الروسية ومهابة الحضور وهالة الموقف.
فاجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العالم.. وأكد أنّ موسكو لن تردّ على واشنطن بطرد أيّ من دبلوماسييها، معتبراً انّ بلاده تحتفظ بحقها في الردّ على الخطوات الأميركية غير الودية، مستهزئاً بما جرى كما يبدو قائلاً: «إنّ روسيا لن تنحدر لمستوى إدارة الرئيس الأميركي المنتهية ولايته باراك أوباما».
ذكّر بوتين أوباما بأنه سيرحل، وهدّأ من روع الغاضبين، وإذا كانت للسياسة قدرة على الاستفزاز كلامياً فإنّ هذا سيكون أكثر فائدة بالنسبة لبوتين في مواجهة إدارة منتهية الصلاحية، الأمر نفسه تكرّر مع اغتيال السفير الروسي في تركيا اندريه كارلوف، فالجاني كان يعوّل على تلك الروح الروسية الغاضبة والمنفعلة لتغيير مجريات الأحداث فتنسف كلّ ما تمّ بناؤه مع تركيا من تطور للعلاقات السياسية والتعاون بشأن سورية.
كسرت روسيا من بوابة الأزمة السورية فكرة ربط سياستها بانعدام التخطيط الديبلوماسي وقلة الصبر وكثرة الغضب وباتت أكثر الدول هدوءاً وبروداً، فأرسلت أهمّ الرسائل حول منظارها الجديد للسياسة كيف وهي تدرك أنها تنتصر؟
فلتنتصر بهدوء..
لا يروق لروسيا اليوم إفساحاً في المجال إفساد زهوة تقدّمها في المنطقة وهي باتت تتقن اللعب على الأوتار والأعصاب كافة.
بويتن يقدّم «روسيا الجديدة» لهذا العالم…