أوباما الفاسد والجاحد: الديمقراطية إلهة تمر
ناصر قنديل
– بمعزل عن التباينات في السياسات الداخلية والخارجية بين إدارتي باراك أوباما ودونالد ترامب، وبمعزل عن أي منهما يستوعب أكثر حقائق السياسة الدولية الصاعدة بقوة من حروب العالم والشرق الأوسط خلال ربع قرن من التفرّد الأميركي بحكم العالم، ومَن يستشرف سياسة تنبع من المصالح الحقيقية لأميركا والأميركيين، فإن الرسالة التي يوصلها للعالم تصرّف باراك اوباما وإدارته بوجه فوز ترامب، مضمونها أن الديمقراطية التي خاضت أميركا في عهده وعهود سواه حروباً قتل فيها وتشرد ملايين البشر وأصيبوا بالجراح والعاهات، ودمرت خلالها مئات مليارات الدولارات وأتلفت آلاف السنوات من الذاكرة الإنسانية وتراثها ومعالمها، هي نظام غير صالح للتعبير عن الإرادة الشعبية النزيهة، ففي أميركا نفسها التي تريد تعليم العالم معاني الديمقراطية وخصائصها وميزاتها، يمكن أن يصل مرشح رئاسي ويفوز ويصير رئيس أكبر دولة في العالم، يمسك بمفاتيح حرب نووية مدمّرة، ويكون فوزه ثمرة تلاعب مخابراتي بشبكة المعلومات قامت به دولة أخرى ولعبت بالرأي العام وتحكّمت بخياراته، وأن الرئيس الذي تنتجه الديمقراطية هو ساقط تمسك عليه المخابرات الأجنبية سقطاته وتبتزه بها ليسير كما تريد.
– من دون مناقشة صحة وعدم صحة ادعاءات باراك أوباما وإدارته، يكفي القول إنه مدين بالاعتذار بناء على كلامه هذا عن الانتخابات الأميركية لكل ضحايا الحروب الأميركية، التي لولاها لما كانت الكوارث التي تعيش شعوب ودول تحت وطأتها. فطالما أن الديمقراطية هي هذا النظام البائس، أليست جريمة أن تدفع لتعميمها هذه الفاتورة الباهظة، ما دام الروس يستطيعون التلاعب بالديمقراطية في بلد المنشأ الأشد قوة وتحصيناً وعراقة، فما الذي يمنع أن يتمكّنوا من التلاعب عبر هذا النظام الذي يجلب الساقطين لحكم أي بلد في العالم بالطريقة ذاتها متى شاؤوا؟ وأقل ما يُقال في أوباما إنه فاسد بلا ضمير فقد ورّط العالم بهذه الورطة، وهو غير واثق من أنها تستحق هذه الأثمان، وربما واثق من أن ما يقوم بتصديره هي بضاعة فاسدة منتهية الصلاحية تتسبب بالتسمم لمن يتناولها، ويصير نظام بلا انتخابات وفقاً لوصفة أوباما أشد حصانة ضد التدخلات، وأكثر ضمانة للحصانة بوجهها، ويصير كلامه عن عراق بلا صدام حسين أفضل وليبيا بلا القذافي أفضل مجرد كذبة من زاوية طبيعة النظام السياسي فقط، من دون التوقف أمام ما جلبته التدخّلات الأميركية من طوفان للإرهاب الذي عمّم الفوضى والخراب والدمار والموت.
– في الحقيقة يكشف أوباما حجم الغيظ والحقد الذي تحمله النخبة الأميركية على الديمقراطية، لأنها جلبت فوزاً من خارج قواعد اللعبة التي وضعتها وصمّمتها لإقفال الخيارات على مَن تنتجه مكاتب المحاماة، وينتجه موظفو الاستخبارات والدبلوماسية، إذ يحكمون بالنيابة عن أصحاب الرساميل والشركات ويقولون لهم، دعونا نهتم عوضاً عنكم، وتفرغوا لترفكم وبذخكم وفضائحكم، وتفاهاتكم وسخافتكم الفكرية والثقافية. دعونا نحن نهتم بالتقيد باللياقات والبروتوكول ونتقن الكذب والتخفي واللعب على الناس بأخلاقيات يحبون التقيد بها، فندفع عنكم فاتورة التحفظ لتتنعموا بالحرية الشخصية والاجتماعية، وإذ باللعبة تسقط بين أيديهم، والقضية ليست قضية حزبين متنافسين، بل قضية النخبة الجمهورية والديمقراطية التي فاجأها دخول أصحاب الرساميل بعلاقة مباشرة مع الناخبين والتواطؤ لإزاحة النخبة، بتهمة الفساد والفشل وسوء الأمانة. فالحرب التي تشكل السمة الأخطر في السياسة الخارجية هي كلفة مالية ودموية تدفعها الشعوب، والتلاعب بأسبابها وقرارات خوضها والفشل بالفوز بنتائجها شكّل سمة حكم النخبة الأميركية خلال ربع قرن، بعد سقوط جدار برلين، والشعوب في زمن ثورة المعلومات والاتصالات شريك في صناعة قرار الحرب، ولم تعُد تقبل جرّها لدفع أثمان قرارات حروب تقدم باسم المسؤولية الإنسانية للأميركي ليتبين أن قرارها سدّد ثمنه بأموال طائلة من شيوخ الخليج لحساب مكاتب محاماة لمَن كانوا أو لمَن صاروا رؤساء أميركا، وصار من حق الأميركيين رئيس غير قابل للرشوة يقيم حساباتهم نفسها بكل بساطتها وعفويتها وغريزتها البشرية، بعدما ضاقوا ذرعاً بالنخب التي فشلت سياسياً واقتصادياً وأمنياً وعسكرياً، ويمسك بعضها بيد بعض في الحزبين والإعلام والمخابرات والدبلوماسية منعاً لسقوط يهدّدهم جميعاً كحكام بالوكالة عن الأصيل، صاحب المال وصاحب الصوت الانتخابي ودافع الضريبة. ويبدو ترامب أقدر على تمثيلهم معاً.
– هناك مَن يحاول من موقع البكاء على أطلال تهاوي المشروع المموّل خليجياً لهيلاري كلينتون تقديم تفسير للصراع الفكري السياسي الذي يفتتحه وصول ترامب إلى البيت الأبيض. قوامه صراع اليمين المتطرف والليبرالية داخل الديمقراطية نفسها، بين وحوش أعداء للحضارة مثل فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، وحملان مثقفين مثل باراك أوباما وفرانسوا هولاند. طبعاً من دون تذكّر أين هو الخليج وحكامه من هاتين الضفتين، رغم سهولة اعتبار مَن يدافع من الضفتين عن أشد الأنظمة تخلفاً وبعداً عن الليبرالية والديمقراطية معاً، والأبعد عن الثقافة والتمدن والحضارة الأشد توحشاً، كيف إذا استسهل إنتاج الإرهاب التكفيري الآتي من كهوف الجاهلية لتصدير الديمقراطية، طالما تجلب له حكاماً مطيعين يمكن التحكم بهم، والقضية لمن يتحرر من قبض المال الخليجي سهلة بسيطة على الثقافة، إنها فشل النخب الحاكمة في المشروع الإمبريالي القائم أساساً على قوة التدخل العسكري، وقد أصيبت العضلة بالشلل، وما عادت الشعوب مستعدّة لبذل الدماء، ولا نفعت خصخصة الحروب بحل المشكلة، فنهضت فلسفة الاحتماء خلف الجدران بوطنية فجة عصبية وعنصرية، يمثلها ترامب ومثله بدرجة مختلفة تيريزا ماي تعبيراً عن ميل بريطاني للعزلة خارج الاتحاد الأوروبي، وفرانسوا فيون في فرنسا تريد أن تكون فرنسية أكثر وأوروبية أقل ومعولمة أقل وأقل. إنها نهاية مشروع الإمبريالية بنسخته المنقحة لما بعد الحرب الباردة، بحربيه الخشنة والناعمة.
– كان يستطيع أوباما ومنظّروه القول انتصرت الديمقراطية، ولكنها جلبت الفظاظة والتطرف وهزمت الليبرالية ومعها الكياسة واللياقة والثقافة والقصد الضمني. فازت الرأسمالية بأشخاصها كحاكم أصيل بتواصلها مع الناخب بلا وسيط، وهزمت النخب كوكيل تحكم بالوكالة بعيداً عن التفويض، «لأنه ركب حصان التفويض ومدّ يده إلى الخرج ليسرق المال»، وكان مفهوماً ذلك بلا توضيحات. والحقيقة أن الديمقراطية أنجزت في أميركا أفضل ما يمكنها أن تنجزه، وليس المهم خطاب ترامب ولا خطاب معاونيه تجاه قضايانا، فهو وهم يعلمون أن قرارات الحروب لم تعُد سهلة، وهذا ما يهمّنا، لأن أميركا التي لا تستطيع خوض الحروب هي أميركا التي يمكن التحدث معها، وهو حكماً حديث خلاف لا حديث تفاهم بالتأكيد. الديمقراطية تسقط الإمبريالية التي تولت الليبرالية حمايتها، فارتضت حكومات الخليج شريكاً وتنظيم القاعدة جيشاً، تفادياً لتمويل الحروب بجنود من شعب يرفض إرسالهم ومال يرفض المكلفون الضريبيون سداده. وبعدما فشلت جاء من يقول لها كفى تلاعباً، فأظهرت فسادها باستغلال مناصبها الدستورية التي منحتها إياها الديمقراطية للنيل من الديمقراطية نفسها، ومن نتاجها الانتخابي لأنه لم يكن على هواها، فقررت تشويهها وتشويهه، والتنكّر لها كنظام تُخبرنا الآن بعد كل حروبها تحت شعاره، أنه لا يصلح ولا يشتغل، وأنه صالح للاستغلال والتلاعب. فتظهر مع فسادها باستغلال المناصب جحوداً بحق الديمقراطية، تصوغها كأهل الجاهلية في قريش، الذين خبرتهم ويبدو أنها تعلّمت منهم بدلاً من أن تعلّمهم، فصارت الديمقراطية عندها، إلهة تمر تعبُدها، لكنها إذا جاعت تأكلها.