مفاوضات جنيف والفوز بالضربة القاضية
ناصر قنديل
– مما لا شكّ فيه أن الحرب في سورية لم تكن ولم تعد على الأقل حرباً سورية سورية، فمنذ بداياتها هي حرب حلف تشكل لتغيير سورية وموقعها وهويتها. حلف دولي إقليمي له ذراع وواجهة سوريتان، ذراعه هي الوهابية في سورية ومَن يدعمها من مقاتلي القاعدة وواجهتها الأخوان المسلمون وبعض العلمانيين المشتغلين لحساب الحلف الدولي الإقليمي أو الحاقدين الذين جعلهم الحقد الأعمى بلا بصيرة حول مستقبل بلدهم أو الذين استنهضتهم الحرب بوعود سلطوية وأموال خليجية، وعلى الضفة المقابلة كانت سورية وحدها في شهور الحرب الأولى، لكن خطر تغيير سورية وموقعها وضراوة الحرب عليها وحجم الاستثمار والعناد اللذين أبداهما الحلف الذي يخوض الحرب لتغييرها فتح عيون المعنيين بكل تغيير جيوسياسي نوعيّ في المنطقة على مخاطر هذه الحرب وتأثيراتها عليهم، فبدأوا يدخلون على خطها تدريجياً حتى صاروا جزءاً عضوياً منها، خصوصاً روسيا وإيران وحزب الله.
– الواضح أن التباين في مقدرات الحلفاء على الضفتين كان مختلاً لحساب دول حلف الحرب الذي تقوده واشنطن وتحتشد فيه كل من الرياض وأنقرة وتل أبيب بشكل رئيسي، لكن إرادة وعزيمة الحلف الداعم لسورية كانت تبدو ترتفع تدريجاً حتى بلوغ التموضع المباشر، بما فيه من مخاطر، بقي الحلف المقابل يسعى لتفاديها، مستعيضاً عن حضور جيوشه بضخّ المال والسلاح والمزيد من مقاتلي تنظيم القاعدة لحين ولادة نسخة منقحة منه، هي تنظيم داعش. وفي قلب هذا التوازن بين المقدرات والإرادة استعصت الحرب، وبدا أن العامل الحاسم عاد ليكون سورية، بحيث يصير فائض القوة لدى الحلف الذي يملك حليفه السوري قدرة تمثيل أوسع وتحشيد أكبر واستعداد للقتال أكبر.
– في قلب الحرب بدا بذل الدماء عنصراً حاسماً في تحديد قدرة الصمود لدى المتحاربين، ورغم حشد حلف الحرب لتنظيم القاعدة بنسختيه الأصلية والمنقحة الذي استهلك في الحرب الآلاف من انتحارييه، بقيت المواجهات المباشرة تقول إن الجيش السوري وحليفه حزب الله يملكان مقدرة أعلى على تحمّل بذل الدماء يترجمونه ثباتاً في المواقع أو إقداماً في الهجوم، كما بدا مع تقدّم الحرب أن تماسك الأحلاف حاسم في قدرتها على رسم سقوف حربها، بعدما ثبت العجز عن الحسم فتبلورت خطط رديفة للنصر الكامل الذي كان هدفاً متفقاً عليه عند الذين قرّروا الذهاب للحرب من دون أن تكون بينهم خطة بديلة واحدة متفق عليها، فالتقاسم للجغرافيا يُرضي السعودية و«إسرائيل»، لكنه لا يشكل خطة مريحة للأميركيين، لأنه ليس صيغة مستقرة راسخة، ويشكل خطاً أحمر للأتراك الذي يخشون إفادة الأكراد منه، بينما الوصول لتسوية سياسية يريح الأميركيين ولو بقي الرئيس السوري، ويقلق السعوديين ويربك الأتراك ويخيف «الإسرائيليين»، بالمقابل بدا حلف دعم سورية ملتقياً على هدف أعلى عنوانه ردّ الحرب وإسقاط أهدافها والانفتاح على تسوية سياسية تحتكم لصناديق الاقتراع وإرادة السوريين.
– تدور العملية السياسية تحت عنوانَي الحرب على الإرهاب أولوية والتسوية السياسية ضرورة لتلبيتها، ويتفاوض الفريقان السوريان في جنيف ليثبت كل منهما عدم تحمل مسؤولية فشل التفاوض، فيسعى المفاوض الحكومي لرسم استراتيجيته بما يفضح ارتباط الفريق المقابل بالإرهاب ووضعه أمام هذا التحدّي، ونجح في كل مرة بتحقيق الضربة القاضية بحق خصومه، بينما يسعى مفاوضو حلف الحرب على سورية لوضع المفاوض الحكومي أمام تحدي رفض العملية السياسية، فنجح المفاوض الحكومي بتفادي الفخ ورسم للعملية السياسية هدفاً هو الاحتكام لإرداة الشعب في صناديق الاقتراع، عبر صيغة انتقالية لحكومة ودستور تنتهي بالانتخابات، وعلق المفاوض المعارض في صنارة الإصرار على رحيل الرئيس السوري بغير الانتخابات شرطاً للعملية فسقط كمفاوض مرتين.
– في أستانة واجه المفاوض الحكومي تحدّي قبول التنظيمات التي صنفها إرهابية على طاولة التفاوض والتعاون، فتخطاه على قاعدة لندع الأفعال تتكلّم لا الأقوال، ووضع تحدياً مقابلاً لخصومه هو القدرة على إثبات انفصالهم عن النصرة فترددوا وخسروا قبل أن تبدأ النصرة بحربها عليهم، فيخسروا للمرة الثانية. بينما واجه المفاوض الحكومي في العملية السياسية تحدّي قبول حكومة موحدة مع خصومه فتخطاها طالما تنتهي بالانتخابات وبقيت عند خصمه عقدة العجز عن مجاراته وهو عالق في صنارة الرئاسة.
– يترنّح وفد الرياض في جنيف وهو عاجز عن مجاراة وفد الحكومة في القدرة على التصرّف بثقة وتحمّل الخسائر التكتيكية والمخاطرة بعروض غير مضمونة، لأنه لا يملك البدائل الرئيسية التي تشكل شرطاً للفوز بالتفاوض، وأهمها إثنان، القدرة على تحمّل تبعات العودة إلى ميادين القتال، والثاني القدرة على تحمّل الاحتكام لصناديق الاقتراع، وفي كليهما ترجح كفة الدولة السورية بقوة، فيصير تماسك حلفها بوجه مخاطر تفكّك حلف خصومها بقوة الثقة بمصادر قوتها، قيمة مضافة لتفوّق سورية والحلفاء وتماسكهم معاً.