الجيش السوري يكبح المشاريع السياسيّة المعادية

د. وفيق إبراهيم

التحرّك النوعي للجيش العربي السوري الذي ابتدأ منذ شهرين تقريباً لا يندرج في إطار العمليات العسكرية العاديّة التي تتعلّق بصدّ هجوم إرهابي أو طرد تنظيم تكفيري من مناطق هامّة، وهي أعمال روتينيّة يؤدّيها الجيش ببسالة منذ 5 سنوات.

ميزة التحرّك الجديد استهدافه العسكري لمشاريع سياسية ذات طابع إقليمي ودولي، ويبدو أنّه أصابها مقلّصاً حرّكتها إلى حدود تجميدها بانتظار تطوّرات جديدة.

وبالتدريج، فإنّ تحرير حلب الشهباء ثاني المدن السورية والعاصمة الاقتصادية لبلاد الشام، هو التحرّك الأوّل الذي أعاد المدينة إلى حضن سورية، متيحاً لمئات الآلاف من سكّانها العودة إلى ديارهم، ومفسحاً المجال لإعادة بناء أساس اقتصادي متين لعصب سورية الاقتصادي.

أمّا على مستوى تركيا، فقد أُصيب مشروعها في شمال سورية بانتكاسة كبيرة، بدليل أنّ الرئيس التركي أردوغان كان يصرّح من دون خجل أنّ حلب تركيّة وعثمانيّة، ويعمل على استعادتها مع الموصل العراقية إلى الإطار الكياني لبلاده، وتسبّبت هذه المعركة من حيث لا يدري أردوغان بتصدّع للعلاقات الأخوية و«العميقة» بين أنقرة و«داعش»، لأنّ تركيا حاولت إنقاذ التنظيمات الإرهابية الملتصقة بها، وهي «الجيش الحرّ» المزعوم ومنظّمات الإرهاب التركمانية، و«أحرار الشام» قبل أن ينشقّ، وأخرجتهم من حلب قبل تحريرها بوساطة روسيّة.

وجاء تقدّم الجيش التركي بغطاء من «جيش سوري حرّ مزعوم» في مناطق «داعش» في شمال سورية، ليعطي فرصة جديدة للجيش السوري ليتحرّك محقّقاً تقدّماً على الأرض، واندفاعة سياسية أكبر تقوم على مجابهة الجيش التركي وميليشياته السورية بشكل مباشر.

إنّ وصول القوّات السوريّة إلى الحدود التي تقف عندها وحدات الدفاع الكرديّة في بلدة تادف، أدّى إلى إنشاء ما يشبه مستطيلاً عسكرياً كبيراً يمنع الأتراك من التقدّم في العمق السوري لناحية مدينة الرقة، وبذلك توقّف المشروع التركي الخطير جداً عند حدود مدينة الباب، ولم يعُد يستطيع إنجاز أيّ تقدّم خشية اصطدامه بأصحاب البلاد، أيّ الدولة السوريّة وجيشها العربي السوري.

وها هو أردوغان يعترف أنّ ما أسماه «تحرير» الرقة يتطلّب موافقات روسيّة وأميركية ليست موجودة حتى الآن، وهذا يعني «اختلاقه» تبريرات لجمود حركته في الشمال. أمّا المعركة الثانية فهي أرياف دمشق، وهي حرب سياسيّة بامتياز، لأنّها أعطت العاصمة مدىً دائرياً يقيها شرور الغزوات المباغتة، وحضّها سياسياً على الرّغم من بعض القصف العشوائي الذي يصيب بعض أحيائها من جهة، والسفارة الروسيّة من جهةٍ أخرى. ما يكشف أهميّة تحرير أرياف دمشق من التنظيمات الإرهابيّة التكفيريّة التي كانت تتحيّن الفرص لغزو عاصمة الشام. وهذه هزيمة في مرمى المملكة العربية السعودية التي كانت تدعم معظم التنظيمات حول العاصمة بغطاء أميركي.

لجهة المعركة الثالثة، فهي الجنوب المحاذي للحدود الأردنية حيث تصول المخابرات الأردنية وتجول في محاولة لتنظيم عشائر عربية بذرائع واهية. ويبدو أنّ تهديداً سوريّاً قاسي اللهجة نقله الروس إلى الملك الأردني كان كافياً للجم الاندفاعة الهاشمية، إنّما من دون الوصول إلى مرحلة إلغائها، لأنها لا تزال خياراً أميركياً. لكن المهمّ هنا، يتعلّق بانكشاف المشروع واستعداد الجيش السوري مع حلفائه الروس والإيرانيّين وحزب الله لمجابهته بشكل كبير، وهنا توجد هزيمة للأردنيّين والسعوديّين والأميركيّين.

ويبدو أنّ حدود سورية مع فلسطين المحتلّة تختزن مشروع حرب إقليميّة كبيرة إذا واصل «الإسرائيليّون» دعمهم لمشروع المنظّمات التكفيرية بالسيطرة على المنطقة، وذلك لمهاجمة دمشق. وهنا أيضاً وضع الجيش العربي السوري كامل إمكاناته لاجماً حركة التكفيريّين في بؤر صغيرة ضيّقة… والمهم أنّ الخطر على دمشق عاصمة الدولة السورية زال بشكل كامل، لأنّ سقوط العاصمة لا يعني في اللغة السياسية إلّا سقوط الدولة وانكسار النظام، وهذه فرضيّة اندحرت إلى غير رجعة.

لكنّ الضربة الكبيرة التي سدّدها الجيش العربي السوري تجسّدت في تحرير مدينة تدمر وضواحيها، ولهذه العملية تداعيات سياسيّة كبيرة في الفصول المتتابعة للأزمة السوريّة أوّلها أنّ الجيش السوري أصبح قادراً على تحرير منطقة «السخنة» المشرفة على خطوط المواصلات بين مدينتَي الرقة ودير الزور، ما يعني مباشرة صعوبة بناء «مستطيل أميركي» يربط بين العراق وسورية، وهدفه منع الاتصال الروسي الإيراني ببلاد الشام ولبنان. وللتفسير أكثر، فإنّ هدف هذا «المستطيل» ضرب المقاومة وتقسيم سورية ووقف النفوذ الإيراني الإيجابي وعرقلة الدور الروسي.

لذلك، تُعتبر معركة تدمر السورية الروسية الإيرانية ردّاً سوريّاً إيرانيّاً روسياً على المشروع الأميركي بين دير الزور والرقة.

وبإيجاز، يمكن القول إنّ الانتصارات السوريّة قلّصت المشروع التركي والتدخّل الأردني ومحاولات «إسرائيل» لتدمير الدولة السورية… والأهمّ أنّها بشكل من الأشكال قضت على المشروع الأميركي الجديد القاضي ببناء «مناطق آمنة مزعومة» من شمال سورية وحتى وسطها، وصولاً إلى مناطق الحدود العراقية والأردنية و«الإسرائيلية»، لأنّ هذه المناطق المحمية أميركياً وتركياً ستحظى بحظر جوّي، ما يعني نموّها واستمرارها وصولاً إلى تحوّلها كانتونات تتمتّع بالرعاية الدولية حتى تصبح في مراحل لاحقة قادرة على التحوّل إلى كانتونات سياسية.

إنّ السياسة الأميركية لا تزال تعمل على تقسيم سورية، خدمة لـ«إسرائيل» من جهة، وللجم الاندفاعة الروسيّة الإيرانيّة من جهة ثانية. وعلى الرغم من أنّ إدارة الرئيس رونالد ترامب لا تزال تحضّر ملفّاتها الخاصة بـ«الشرق الأوسط»، لكنّ طلائع هذه الملفات بدأت تتمظهر في الاستهدافات الإعلامية المتلاحقة للدولة السوريّة، بدايةً عبر استحضار ملف السجون السوريّة، وخصوصاً سجن صيدنايا الذي ركّز الإعلام الغربي والخليجي طيلة شهر كامل على أنّ النظام قتل فيه عشرات آلاف المسجونين، مغتصباً السجينات وقاتلاً العائلات، وذلك من دون تقديم أيّ دليل ماديّ ملموس.

وعندما فشلت هذه الحملة، شنّ الإعلام نفسه، العربي والخليجي والغربي، حرباً لا هوادة فيها بحجّة أنّ النظام السوري استعمل السلاح الكيميائي عشرات المرّات فاتكاً بعشرات الآلاف من المدنيّين، وتصاعدت الحملة الكيميائيّة إلى حدود أنّ منظمة الأمم المتحدة زعمت أنّ النظام والتنظيمات الإرهابية معاً، استخدما السلاح الكيميائي أكثر من مرّة في الحرب السوريّة، علماً أنّ ملف الكيميائي انتهى منذ عامين على الأقلّ، فلماذا إعادة فتحه الآن بالتحديد؟ لأنّ الجيش العربي السوري بدأ يحقق انتصارات تؤسّس لـ«الحلّ السياسي» للأزمة السوريّة، وليس مجرّد معارك عسكرية تقليدية تحافظ على المواقع والقرى والوضع القائم. ولأنّ المشروع الخليجي الأميركي بدأ يفقد توازنه في سورية، عاد بسرعة إلى نغمة استعمال الفتنة السنّية الشيعية متّهماً النظام بتهجير السنّة و«تشييع» الناس. وتسلّم الإعلام المتواطئ الموجة التي كانت على وشك الأفول، معيداً فتحها بشكل عنيف بذريعة أنّ السنّة يتحوّلون إلى شيعة بالقوّة، ونسي هؤلاء أنّ معظم أفراد الجيش السوري الذي يدافع عن الدولة هم من السنّة، وأنّ أهالي حلب وحماة وحمص ودمشق أبناء هذه المدن المؤيدة للنظام هم من أبناء الطائفة السنّية أيضاً. ولم يتذكّر هؤلاء أنّ مشاريع التبشير الدينية والمذهبيّة توقّفت مع رحيل المستعمرين فثبت الناس على أديانهم ومذاهبهم، بدليل أنّ سنّياً واحداً لم يتحوّل إلى مذاهب أخرى في سورية منذ قرون عدّة على الأقلّ.

أمّا لجهة إيران، فهي لم تحاول حتى تشييع السنّة الإيرانيّين، فلماذا تشييعهم في مناطق أخرى؟ كما أنّ روسيا لا تهتمّ بهذه الأمور التي تعتبرها مجرّد اتهامات رخيصة لا قيمة لها.

لذلك، فإنّ محاولات إسقاط الدولة السورية مستمرّة ومتواصلة، لكنّها تتقلّص تحت وطأة الانتصارات التي ينجزها الجيش السوري. وكلّما حقّق هذا الجيش انتصاراً، نجد أنّ الحملة على سورية تشتدّ على الأصعدة كلّها، وآخرها محاولة أميركية في مجلس الأمن الدولي لإقرار عقوبات مقاطعة على دمشق.

وعلى الرّغم من أنّ واشنطن تعرف مسبقاً أنّ مشروعها لن يمرّ بسبب الفيتوين الروسي والصيني، فقد أصرّت على عرضه لتشويه سمعة الدولة السوريّة إعلامياً وإظهار اهتمامها بمدّ التكفيريّين بجرعات أوكسيجين تنشيطيّة من صناعة أميركية.

هذا هو الفصل الأخير من الأزمة السورية! إنّ اشتداد هجمات الأميركيّين المختلفة على الدولة السوريّة مقابل تحوّل حروب الجيش السوري نحو أهداف نوعيّة بأهداف سياسيّة خالصة، إنّما هي مؤشّرات على دخول هذه الأزمة في أبواب تصعيد كبيرة تسبق عادةً الحلول السياسيّة التي تنطلق من فوهات المدافع. وبذلك يؤكّد الجيش العربي السوري أنّه الوسيلة المثاليّة لإجهاض مشاريع تقسيم المشرق العربي، انطلاقاً من بوّابة عاصمته دمشق التي تحمي الفراغ السياسي في المنطقة العربية بدماء جنودها البواسل حرّاس الأمة الدائمين.

اترك تعليقاً

Back to top button