فصل أميركي جديد
د. وفيق إبراهيم
تضع الولايات المتحدة الأميركية كامل ثقلها السياسي والعسكري في الهجوم الذي من المقرّر أن يبدأ مطلع الشهر المقبل «لتحرير» مدينة الرقة شرق سورية.
الخبر عند هذا الحدّ يوحي بأنّ واشنطن منظمة كاريتاس للأعمال الخيرية والإنسانية، لكنّ لمَ الإصرار الأميركي على التفرّد في استعادة الرقة بواسطة وحدات الحماية الكردية وبعض العشائر العربيّة وقوّات بالآلاف من النخبة العسكرية الأميركية مدجّجة بأسلحة متطوّرة، إلى جانب السلاح الجوّي الأميركي والأوروبي بتقنيات تستطيع رصد حتى الذبابة الواحدة على سطح الأرض. ويصادف أنّ وزير الدفاع الأميركي قال ببراءة الذئب، إنّ قوّاته ستبقى في الرقّة بعد تحريرها لضمان الاستقرار!
إنّ هذا الإصرار يُقْصي فوراً لاعبين إقليميّين وعرباً هم جزءٌ تاريخيّ من الألعاب الأميركيّة في منطقة «الشرق الأوسط» التي تستهدف عادةً شعوبه، أمّا القوى التي جرى استبعادها، فأوّلها تركيا عضو الحلف الأطلسي منذ تأسيسه، والمنتظمة ضمن الوصاية الأميركيّة من دون انقطاع. ويصيب الإقصاء أيضاً السعودية التي يكاد دورها السوري يُصاب باضمحلال شديد. فتركيا أبعدتها عن معارك الشمال السوري، وباعت التنظيمات الموالية للرياض بشكل مباشر في مدينة حلب وتركتهم للجيش السوري الذي نظّف «الشهباء» من إرهابهم.
وطردت أنقرة السعودية أيضاً من أداء أي دور سياسي في مؤتمرات أستانة وجنيف، ما أدّى إلى ضغط سعوديّ على هذه التنظيمات كي لا تشارك فيها. ولم تقصّر واشنطن بدورها، فلم تسمح للسعودية في المشاركة في حرب الرقّة المرتقبة، حتى على مستوى التخطيط.
وما عطّل حتى الآن هذا «التفرّد الأميركي» هو التقدّم الذي يُحرزه الجيش السوري من جهة البادية في تدمر والشمال السوري، حيث قطعت قوّات الدولة السوريّة الطريق التي تربط بين الرقة ودير الزور. وكانت قطعت منذ مدّة قريبة طريق تركيا نحو الرقة، فباتت الدولة السوريّة لاعباً أساسيّاً لا يمكن تجاوزه في كل العمليات الدائرة في الشرق السوري.
وبالاستنتاج، يتّضح أنّ الدور التركي ملجومٌ بقوات الدولة السوريّة، فيما يكتفي الدور السعودي بالاستمرار في تمويل الإرهاب والضغط لإرجاء القضاء على «داعش» و«النصرة» إلى مراحل ما بعد انهيار الدولة السوريّة، كما يزعمون، أو تحصيل مكاسب في اليمن على الأقلّ إذا كان الهدف الأوّل متعذّراً، ويبدو أنّ هذا ما تفاوض عليه حالياً.
تعتب أنقرة على واشنطن، لأنّها تجهض دوراً كبيراً لها كان يمكن أن تؤدّيه لو انهارت الدولة السوريّة. فتركيا دولة كبيرة وقويّة، تستطيع بعلاقتها العضوية بالإخوان المسلمين أن تضمّ سورية والعراق في إطار دولة عثمانية التاريخ، إسلامية الدين، تركيّة التبعية، وكلّ هذا تعتبره أنقرة في إطار الانتماء إلى المحور الأميركي. لكن لجم دورها في الشمال السوري من قِبل الدولة السوريّة والرعاية الأميركيّة للأكراد تسليحاً وتدريباً وتمويلاً وسياسة، جعل الأتراك يفتّشون عن مكاسب لهم عند الروس من دون قطع علاقاتهم بالأميركيّين. وما دام الأتراك أصدقاء مخلصين للسياسات الأميركية، فلماذا تستبعدهم واشنطن عن حرب الرقّة، وتحول دون دخولهم إلى مدينة منبج والتقدّم باتّجاه الشرق والجنوب السوريَّين؟
تؤشّر المعطيات المتسارعة إلى أنّ فصلاً أميركياً جديداً بدأت واشنطن بإعداده، يرتبط بمفهومها للحدّ من النفوذ الإيراني من جهة، واستعمال «مكوّنات» في الشرق الأوسط تستطيع أداء أدوار إقليمية لأنّها بحاجة إليها… فالأتراك يريدون خلافة لهم، و«إسرائيل» تريد التدمير لمنع تشكّل دول قويّة، والسعوديّة عاجزة عن رعاية الأهداف الأميركيّة خارج حدود الاهتمام بالنفط على مستوى بيعه وتوزيع عائداته على آل سعود والغرب مع صفقات مع الصين وروسيا.
لذلك، آمن الأميركيّون بدور إقليمي للكرد الذين ليسوا ندّاً له، لكنّهم بحاجة إليه لتحقيق حلمهم التاريخي بإنشاء دولة واحدة لهم تربط بين مناطق انتشارهم في إيران والعراق وسورية وتركيا.
هي إذن «وصفة» خارقة يستطيع اللاعب الأميركي فيها أن يجلس على سقف عالٍ ويراقب بهدوء الدور الكردي، وهو ينخر في الأجسام الكيانيّة لدول الانتشار، واهباً لواشنطن دوراً إقليمياً كبيراً في التأثير على سياسات المنطقة بأقلّ قدر من التكاليف والأضرار. بالمقابل، ولاستكمال مخطط الاستعمال الإقليمي للكرد، تتعهّد واشنطن بحماية الأكراد عسكرياً وسياسياً، فتمنع عنهم ردود الفعل المحتملة من دول الانتشار. وهذا ما فعلته مع تركيا حين منعتها من دخول منبج وأوقفت حركتها نحو مناطقهم في سورية، وهناك اليوم منطقة كرديّة واسعة في سورية تضمّ مواطنين عرباً وآشوريّين وسرياناً أكثر من عدد الأكراد. لكنّها الإرادة الأميركية التي تراهن على دورهم السياسي المقبل في «الشرق الأوسط».
وحرب الرقّة نموذج ساطع لما تريده واشنطن من أهداف… وأوّلها القضاء على «داعش» بتوقيت يتزامن بشكل متعمّد مع انهيار هذا التنظيم في الموصل العراقية، على أن يليه تقدّم جديد نحو دير الزور… فتصبح الولايات المتحدة الأميركية مسيطرة بشكل كامل على وسط سورية وشرقها بما يعزلها عن العراق لناحية صحراء الأنبار وكردستان البرازاني، إلى جانب عزلها عن الأردن بقوات عشائرية لها علاقات مع المخابرات الأردنيّة. وبهذه الطريقة تسيطر أميركا على الأزمة السوريّة، فلا تسمح بإيجاد حلول لها إلا في التوقيت الذي يناسبها.
وبالعملي، تصبح هناك ثلاثة كيانات هجينة، الأولى منطقة إدلب المحسوبة بالعمق على تركيا، وتمتدّ على معظم الحدود السوريّة التركيّة وتصل إلى أرياف حلب ومنبج بمساحة تزيد عن الأربعة آلاف كيلو متر، إلا أنّه لم يعد بالإمكان توسيع هذه المنطقة بعد تقدّم الجيش السوري قبالتها مع الأكراد. أمّا الكيان الثاني، فيصل مدينة الرقّة بدير الزور بإشراف أميركي وتنفيذ كردي تحميه واشنطن. والثالث برعاية «إسرائيليّة» أردنية يبدأ من حدود الجولان المحتل مع سورية، مروراً بطول حدودها مع الأردن وبعمق يصل إلى مشارف مدينة درعا.
هذا هو الفصل الجديد الذي تعدّه أميركا بطريقتين: الأوّلى عسكرية، وأخرى بالمفاوضات السياسيّة مع الروس كطرف يمثّل أيضاً الجانبين السوري والإيراني. وترشح معلومات أنّ موسكو أبلغت الأميركيّين رفض الحلف السوري الذي تنتمي إليه مثل هذه المخطّطات. والدليل أنّ الجيش السوري يواصل تقدّمه في المناطق كلّها، بما يؤكّد أنّ الرقّة لن تكون فاصلاً بين السوريّين والسوريّين، لا سياسياً ولا اجتماعياً. فهل تقامر واشنطن بحرب إقليمية؟!!
إدارة الرئيس الجديد ترامب تلعب في السياسة على طريقة تنفيذ الأعمال التجارية، والدليل أنّ وليّ وليّ العهد السعودي وقّع اتفاقات مع واشنطن بقيمة مئتي مليار دولار توهّماً منه بسياسات أميركيّة جديدة يأمل أن تقضي على إيران وتدمّر الدولة السوريّة، وتجعله مسيطراً على اليمن وتساعده في تقسيم العراق.. أتراه صدّق وزير الدفاع الأميركي الذي قال «إنّنا سنبقى في سورية بعد تحرير الرقة»؟.
وسياسة الابتزاز الأميركيّة متواصلة ولن ترحم دولة الإمارات والكويت وقطر… وأيّ مكان فيه أموال نفطيّة قابلة للابتزاز.
إنّ الوقت الذي يعلم فيه حكّام الخليج أنّ عصر التفرّد الأميركي في القرار الدولي قد ولّى إلى غير رجعة باتَ قريباً، فهناك حلف متين لن يسمح لها بذلك مجدّداً، وهو الحلف السوري الروسي والإيراني. وترقّبوا توغّل هذا الحلف لأداء أدوار في العراق واليمن… وعندها قد يدفع السعوديّون مئتي مليار جديدة للدفاع عن عرشهم في الرياض. أمّا الأقل كلفة فانسحابهم من مخطّطات دعم الإرهاب والعودة إلى بناء مشروع مشترك يضع هذه الدول على مسار النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين بعقليّة عمليّة حديثة تُقصي الأميركيّين ومعهم أهل الأساطير والخرافات والتخلّف.