للمرة الأولى رئيساً لبنانياً «مؤنباً» للعرب ومتطوّعاً لتخليصهم
روزانا رمّال
جلس الرئيس اللبناني العماد ميشال عون في القمة العربية التي انعقدت في الأردن، أمس «محاضراً» بالعرب الذين رفضوه «رئيساً» وعطّلوا البلاد لسنتين شغوراً أملاً بالتخلص من ترشحه لرئاسة الجمهورية حتى صار بينهم معرياً انتكاساتهم، كاشفاً ثغراتهم ومقدّماً نبرة مغايرة «للخطابة» في حضرة الملوك العرب.
وقف الحروب بين «الاخوة» وعدم انتظار حلول خارجية كإسقاطات آتية لا محالة، أبرز ما أراد عون توعية العرب إليه ومنه، جزء نائم وجزء حاضر بضمير نائم في القاعة وجزء مشارك بقتل الأخ لأخيه ويدعو لـ«صون» الإسلام ويحاضر فيه ويحاول جاهداً التنصّل من أي تهمة فحواها دعم الجماعات التكفيرية التي يدرك الحاضرون استحالة أن تطأ الأرض العربية من دون إذنهم أو من دون الحاضنة العربية.
ممثلو دول الإسلام والمسلمين استمعوا الى الرئيس «المسيحي» الوحيد الذي ألقى عليهم «الحجة» واضعاً الإصبع على الجرح من جهة وتجربة بلده لبنان بين أيديهم من جهة أخرى والتي كان أحد صنّاع محطّاتها تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً في ما سيأتي من أجيال ستنصف عون وتتعرّف إلى ماذا قصد اللبنانيون بالرئيس اللبناني «المسيحي» القوي؟ ولماذا ميشال عون؟
82 عاماً من الكرامة، لم يتعثّر فيها عون يوماً او يضيّع بوصلة الحق أو حتى الحقيقة. عارض الوجود السوري بشرف ورفض وجوده على ارضه وهو «حق». أريد فهمه باطلاً فهو لم يطلب يوماً التآمر على سورية لإخراجها من لبنان كما يحدث اليوم في سورية.. التآمر على المقاومة لإخراجها من سورية او على إيران لقطع اوصال المنظومة برمّتها.
ألزم الرئيس عون بالأمس الضمائر الميتة في قمة البحر الميت بالاستماع، وعلى غير عادة وللمرة الأولى إلى موقف لبنان الأكثر خبرة ودراية منهم، فارضاً هيبة الموقف بعد افتقاد تموضع لبنان بخانة «الموجّه» او «الناصح» للعرب.
من مكان «آمن ومريح» يغذّيه رصيده الكبير من الحروب والتجارب والانتصارات على «إسرائيل» ومعها الفتن، ظهر لبنان في هيئة رجل «حكيم» وواعظ… «مخضرماً» يريد مدّ يد المساعدة للعرب التائهين، متباهياً بانسجام يحمله معه بالوفد اللبناني وفسيفساء الطوائف مع رئيس سني للوزراء وفريق وزاري شيعي سني مسيحي لم تفرضه هذه المرة رغبة العرب، إنما توازن قوى فرضت عون رئيساً قوياً منسجماً مع خياراته بدعم المقاومة والجيش اللبناني ورفض الإرهاب بعدما كان مرفوضاً عند العرب فصار بينهم!
«اغفر لهم يا رب إنهم لا يدرون ماذا يفعلون» نقد مبطّن ولاذع أراده عون مدوياً في أرجاء القاعة، نبرة صوت واثقة وقلب من حديد لم يبالِ كثيراً لأرصدتهم أو نفطهم ولا بخبرتهم التي بدت ركيكة أمامه.
وضع عون تجربة لبنان بيد المتقاتلين على مسامع الداعمين طارحاً تقديم مبادرات عربية محلية، معللاً ذلك «لأننا كلبنانيين عشنا حروباً طويلة.. لا لتقاتل الاخوة ولبنان مستعدّ للوساطة بين الأشقاء… اللهم اشهد أني بلغت.. فهل تقبلون المساعدة؟
لا يريد عون الاكتفاء ببيانات استنكار وإدانة لم تفد لبنان على مدار 15 عاماً في حرب أهلية ضروس لم تقدّم إلا الموت لأهله، ولا يريد حلولاً كإسقاطات، بل طوّع لبنان من اجل هذه المهمة ومفتخراً بما يحمله كنموذج حي بين أعضاء الوفد بهذه المرحلة.
هناك ضرورة ملحّة لاتخاذ زمام مبادرة فعالة تؤثر بمجرى الأحداث وعون مستعدّ للمساعدة بناء على التجربة اللبنانية وعلى نجاحه كرأس حربة وصراع أساسي في البلاد على عقد تفاهمات وازنة مع خصومه التاريخيين أبرزهم القوات اللبنانية.
اكثر من نموذج ونموذج وضعه عون بيد العرب العاجزين عن التخلي عن الاصطفاف السياسي في سورية واليمن والعراق والبحرين. سيلحقنا جميعاً المصير نفسه أراد عون تأكيد هذا بصراحة، إما أن يخرج من بينكم مبادرة واما الحلول والإسقاطات الخارجية، أي أنكم على موعد مع أوامر جديدة لتنفيذها بما يخص صراعاتكم الخاصة.
يلفت فصل عون لبنان عن هذه المعمعة، مخاطباً العرب بنضج سياسي ناصحاً إياهم بالتخلي عن وهم إمكانية تحقيق انتصارات على بعضهم البعض عبر فتح قنوات خارجية، وحدها الوحدة الوطنية تجسّد الحلول اقبلوا بعضكم قبل فوات الأوان.
وهم الربيع العربي عطّل التنمية والبناء في دول عربية عدة.. هو موقف متأخر لأمير الكويت، لكنه يكشف عمق التخبّط الذي عايشه العرب.
وحده الرئيس عون واثق الخطى والمواقف لا يتعثر عند تفاصيل الدعاية والرواية. وحده النموذج اللبناني أمل المتقاتلين اليوم في الشرق الاوسط وهو الذي بنت عليه إيران مقدمات للتوجه نحو السعودية والحج بهدوء في أرضها، نجاح عهد عون و»الخلطة» التي تحكم المعادلة اللبنانية وسط الدمار في الجوار هما مؤشر التقدم نحو نماذج مشابهة او الاستغناء عنها بالكامل.
لبنان الواحد، بارقة أمل بعثها عون من جديد في نفوس اللبنانيين الذين ارتفعت صلواتهم طلباً من الله «رعايته». الرئيس القوي يرفع الصوت عالياً للمرة الاولى «ناصحاً» و»موجهاً» لا متلقياً او خاضعاً او حتى راكباً موجات او صيحات العروبة المزيفة، ليتكم تتقاتلون من أجل فلسطين..
يقف عون متفاخراً، فالعربُ لم «يعيّنوه» رئيساً بل فرضته قوته المحلية وسياساته الوفاقية «التصالحية»، مرشحاً قوياً أصعب من إلغائه فتكيّفوا معه.. تكيّفوا مع خصومكم عبر الحوار كما تكيّفتم معي… نصيحة عون الذهبية.