لماذا كلّ هذا الاستنكار للضربات الأميركيّة؟
جمال محسن العفلق
أميركا هي أميركا، ولم تختلف سياسة البيت الأبيض في يوم من الأيام، جمهورياً كان أم ديمقراطياً، اتجاه قضايا الشعوب، ولم تتغيّر تلك النظرة الفوقيّة والعدوانية لشعوب الأرض منذ دخول الولايات المتحدة الأميركية الحرب العالمية الثانية واستخدامها للقنابل النوويّة، حيث استخدمت أرض اليابان وشعبها كحقل تجارب لصناعتها العسكرية.
أمّا في ما يتعلّق بالشرق والعالم العربي، فقد كانت أميركا وعلى مدى عقود طويلة رأس حربة لتنفيذ مشاريع الحركة الصهيونية والداعم الأقوى لتلك الحركة، حيث إنّ قيمة الإنفاق العسكري على دعم قطعان الاستيطان الصهيوني تفوق بأضعاف ما تنفقه أميركا على الحلفاء المقرّبين منها، ففي وقت كانت أميركا تعطي مصر مكافأة التوقيع على اتفاق السلام مبلغاً يقدّر بمليار دولار، موزّعة وفق شروط أميركا، كانت الحركة الصهيونية تأخذ ثلاثة مليارات، أكثر من نصفها بالمجال العسكري، رغم أنّ الاتفاق كان بين مصر والكيان الصهيوني ولكنّ المكافأة لم تكن متساوية.
ولسرد مواقف الولايات المتحدة الأميركية ودورها بتغذية النزاعات الدولية وتمويلها للإرهاب، علينا أن نبدأ من الكيان الصهيوني وجرائمه التي كانت تحدث وأمام ملايين الناس، وعبر بثّ مباشر، ولكنّ الفيتو الأميركي كان حاضراً في مجلس الأمن ليعطّل أيّ مشروع قرار أو إدانة لتلك الجرائم، وكثيراً ما كانت تتحوّل تلك المشاريع إلى بيان صحافي هزيل يساوي بين الضحيّة والجلاد.
فما قامت به إدارة دونالد ترامب في صباح يوم الجمعة من عدوان سافر على سورية، هو عمل إرهابي هدفه إرسال رسالة للجماعات الإرهابية أنّ المشغّل لكم سوف يتدخّل بالحرب. وكما نعلم جميعاً، الحرب على سورية هي مشروع أميركي بالأصل، وهذا المشروع ليس وليد اللحظة إنّما هو مشروع قديم تبلور بعد احتلال العراق وأصبح اليوم واقعاً بعد تمويل الولايات المتحدة للجماعات الإرهابية، وطبعاً التمويل لم يكن من الخزانة الأميركية، بل من دول تابعة لها أُمرت أن تدفع للجماعات الإرهابية، ولهذا نجد أنّ كلّ الذين رحّبوا بالعدوان الأميركي الأخير هم أنفسهم المموّلون للجماعات الإرهابية، فمن تابع اجتماع مجلس الأمن الذي دعت إليه كلّ من روسيا وسورية واستمع للكلمات، عرف أنّ هذا الإيقاع المتناغم بين مجموعة العدوان على سورية هدفه الوحيد هو ضرب السلم العالمي والتهديد بحرب عالميّة ثالثة، فالكلمات كانت موزّعة بطريقة تؤكّد أنّ أميركا ومن معها أرادوا حرف الاجتماع عن هدفه، وتحويله إلى اجتماع تبادل اتهامات، ضاربين بذلك ميثاق الأمم المتحدة الذي يمنع الاعتداء على أيّة دولة واحترام سيادة كلّ الدول الأعضاء، حتى ممثّل مصر لم يتطرّق إلى العدوان الأميركي، بل انشغل بالهجمات الكيميائيّة المزعومة والتي لا يملك أحد أيّ دليل أنّ الجيش السوري هو من قام بها، ليأتي موقف بوليفيا أكثر كرامة وصدقاً وتحدّثاً بلغة الحرّ لا العبد، عندما ذكّر أعضاء مجلس الأمن بدور أميركا وكذبتها الكبرى بشأن العراق. نعم.. لقد تحدّث مندوب بوليفيا بصدق عن قناعته، ومندوب مصر تحدّث كذلك بصدق ولكن عن قناعات أميركا و«إسرائيل»، وهذا هو الفارق بينهما.
إنّ شجب العدوان والاستنكار أمر طبيعيّ وواقعيّ، ولكنّ الأكثر واقعية هو أن نردّ على هذا العدوان من خلال تقليم أظافر أميركا، وهذا لن يكون إلّا باجتثاث الإرهاب وانتزاع الاعتراف الدولي بأنّ الجيش السوري والحلفاء والقوى الرديفة هم الذين يحاربون الإرهاب، وأنّ مموّلي الإرهاب وعلى رأسهم أميركا التي كانت ترمي بالأسلحة عبر الطائرات على الحدود السورية العراقيّة لدعم قطعان «داعش» و«النصرة» عليهم دفع الثمن، فالخطوة الأميركيّة والقرار الذي اتّخذه ترامب وما نتج عنه هو فرصة لأحرار العالم لإثبات من هو الإرهابي، فالواضح أنّ هناك قوّة تعمل في الإدارة الأميركيّة استطاعت خداع ترامب وتوريطه أكثر في سورية، فما نتج عن العدوان الأميركي لن يغيّر شيئاً على الأرض، ولن يقوّي الجماعات الإرهابيّة التي طالبت عبر ما يُسمّى ائتلاف الدوحة الخائن بتكرارها، وكتب الائتلاف الخائن بيان الفرح بالقصف مرحّباً به.
أمّا المفاوضات التي تديرها الأمم المتحدة، والتي فشلت مراراً وتكراراً وخصوصاً بعد غرق الموفد الأممي في مشروع دعم الإرهاب، فأفضل الشروط اليوم هو الانسحاب منها، ومن يريد التفاوض عليه أن يأتي إلى دمشق لا أن نذهب نحن إليه. فبعد خمس جولات في جنيف وما سبقها في أستانة، يثبت الإرهابيّون ومن يشغّلهم أنّهم لا يريدون وقف هذا العدوان إنّما كسب الوقت وإطالة عمر هذه الحرب، واليوم نحن نرى النصر ولا ندّعيه، فنحن ندافع عن وجودنا، أمّا المموّلون لهذه الحرب سيكتشفون ولكن في وقت متأخّر أنّ الولايات المتحدة استنزفت أموالهم من دون جدوى، ولا يصدّق أحد أنّ ثمن وتكاليف دفعة الصواريخ الأميركية الأخيرة التي أُطلقت على مطار الشعيرات كانت على حساب الأميركي، لقد تمّ قبض ثمنها قبل لعبة الكيميائي التي أطلقها الإعلام وصدّقها الأغبياء. مجرّد تحليل بسيط: لو أراد الجيش السوري استخدام هذا السلاح، أليس الأجدر أن يستخدمه ضدّ قطعان المسلّحين وتجمّعاتهم؟
إنّ هذه الحرب أثبتت مدى سيطرة الإعلام على عقول الكثيرين، واستطاعت السياسة الإعلاميّة للصهيونيّة أن تغيّر مفاهيم كثيرة، فصار طبيعياً أن يدّعي المجرم على المقاوم في المحاكم، ومن الطبيعي أن يبرّر إعلامي طلبه من العدو قتل مقاوم ويجد من يؤيّده!
إنّ السنوات المقبلة ستكون مختلفة جداً، فالعالم قبل العدوان على سورية شيء وما بعد العدوان سيكون شيئاً آخر، ولن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، فالرهان على نجاح محور العدوان وانتصاره هو انتحار سياسي وأخلاقي، وإنّ الأيام المقبلة سوف تثبت بشكلٍ أو بآخر أنّ المطبّلين للعدوان الأميركي هم أنفسهم من سيكون في مقدّمة المطبّلين للموقف الأميركي بعد أن ينجلي الغبار وتبحث الولايات المتحدة عن طريقة للتراجع عن موقفها الأخير وتعود للمربّع الأول، حيث سيكون الوضع السوري شأناً داخليّاً ولا بُدّ من الحلّ السياسي، حتى المناطق الآمنة أو جيوب الإرهاب التي يبكي أردوغان لصنعها لن تتحقّق.