واشنطن تكتشف مجدّداً حدود القوة… فتعود للسياسة
ناصر قنديل
– مَن يستمع للمؤتمر الصحافي لوزير الخارجية الأميركية ريكس تيلرسون ووزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف فسيكتشف بسهولة أن الخلافات التي تباعد من مواقف الدولتين الأعظم في العالم لا تزال على حالها، وسيقول إننا أمام مسرحية إعلامية مدبّرة لمنع إعلان الفشل لما له من مترتبات خطيرة على الوضع الدولي، ومن جرّ العالم إلى مواجهة مفتوحة لا يحتملها ولا يستطيع قادة البلدين إقناع شعوبهم بها ولا تحمّل نتائجها. ويبقى هذا صحيحاً ويمكن معه أن يحتفل الراغبون بالمواجهة، كلّ من موقعه بأنّ ما هو قائم سيمنح حلفاء الدولتين دعماً نوعياً، كلّ من حليفه، لتحكم جولات المواجهة بولادة موازين قوى لمفاوضات لاحقة، تؤسّسها معارك سورية واليمن وأوكرانيا وكوريا الشمالية، والعقوبات الاقتصادية والمالية وسواها.
– ما يحول دون هذا الاستنتاج أمران، الأول هو تغيير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين موقفه الرافض لاستقبال تيلرسون، والثاني هو الإعلان عن اجتماع الهيئة العليا لمنظمة حظر استخدام الأسلحة الكيميائية اليوم في لاهاي بدعوة روسية أميركية مشتركة، لتشكيل فريق تحقيق في حادثة خان شيخون، والتعاون الروسي الأميركي بتسهيل مهمة المحققين، الذين سيتمّ الحصول سلفاً على موافقة موسكو وواشنطن على تسميتهم، من قبل جميع الأطراف.
– التغيير الأول بقبول الرئيس بوتين استقبال تيلرسون كان معلوماً أنه مشروط بنتائج مباحثات تيلرسون مع لافروف، وليس المقصود بالنتائج الوصول للتفاهم على قضايا الخلاف، بل الحصول على تعهّد أميركي بوقف التصرف بانفراد، وارتضاء اعتبار الضربة آخر عمل منفرد من خارج التنسيق الثنائي، وخارج القانون الدولي. وموقف الرئيس بوتين هنا ليس شكلياً بل جوهري، لما يختزنه اللقاء معه من معانٍ تقول بأنّ العالم ذاهب إلى مواجهة مفتوحة بين الدولتين الأعظم أم إلى آليات للتفاوض والتشاور وتغليب السياسة على استخدام العضلات. ولهذا كان للموافقة والرفض للقاء بوتين لتيلرسون صلة مباشرة بما سيقوله الأميركيون بشأن التسليم بتعهّد اعتبار الضربة آخر عمل منفرد يلجأون إليه. وهذا لا يخصّ سورية فقط، بل كوريا أيضاً وأكثر من سورية، ومستقبل الملف النووي الإيراني، وسواها من قضايا الخلاف، وما كان لهذا التسليم ليحدث لولا ما توصّلت إليه واشنطن من محدودية ما أنتجته الضربة من أثر رغم المبالغات التي يبديها إعلام حلفائها، وتطلّبهم للمزيد، فالضربة لم تغيّر الموازين كما توهّمت واشنطن، فلم يشهد الميدان السوري ما يقول بأنّ الجماعات المسلحة تمكّنت من تسجيل إنجازات نوعية، بل العكس هو الذي جرى، ولم يُصَب حلفاء سورية بالذعر، وانهالت العروض على واشنطن لتقديم التنازلات، بل العكس هو الذي حدث، فتماسك الحلفاء وراء خيار المواجهة والتصعيد، والأهمّ أنّ الشعب في سورية الذي توقع الأميركيون انهياراً في معنوياته يترجم حشوداً بالملايين على حدود لبنان وتركيا والأردن، تغادر دمشق وحلب هرباً من خطر الحرب، لم يشعر بالضربة ولم يتعامل معها كعنوان لتحوّل في حياته، وعاشت دمشق وحلب في الليلة التي أعقبت الضربة ليلاً ساهراً عادياً كالذي قبله والذي بعده، وهذا كان كافياً لتدرك واشنطن، أنّ أيّ عمل لاحق مهما كان حجمه أكبر، فمفعوله النفسي سيكون اقلّ، لأنّ مفعول الصدمة يبقى للضربة الأولى، وعند التثبت من محدودية القوة ينبغي العودة للسياسة.
– الأمر الثاني الذي كشفه الوزيران بصدد التفاهم على تحقيق تُجريه منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وشكل الإعلان عنه من مندوب روسيا في مجلس الأمن وهو يستخدم الفيتو لإسقاط المشروع الغربي الموجّه ضدّ سورية، يعني أنّ وجهة النظر الروسية هي التي انتصرت في كيفية إدارة قضايا الخلاف، وأنّ التسليم الأميركي بسقوط آلية العقوبات المسبقة التي أرادتها سواء عبر الضربة او عبر مشروع القرار المشترك مع فرنسا وبريطانيا، قد جاء لمحدودية القدرة على مواصلة السير بها، وأنّ ما ينتج عن السير بالتفاهم مع موسكو هو سقف ما يمكن أن تكون له نتائج، وما يتمّ من وراء ظهر موسكو مهما كان مبهراً في بداياته، فطريقه مسدود ونتائجه محدودة.
– العودة للتشاور والتفاوض تتمّ على الصفيح الساخن، لكنها لا تعني خروج التفاهمات إلى الضوء، بل وقف التصعيد العملي ونقله إلى المستوى السياسي ليبرد تدريجاً وتهدأ العواصف، ويصبح ممكناً تظهير تفاهمات تدريجية، سيكون عنوانها ترحيل الخلاف حول مستقبل سورية للاحتكام لصناديق الاقتراع في سورية بعد القضاء على داعش، وربط التعاون الراهن بالفوز المشترك بهذه الحرب.
– هكذا روّض الدبّ الروسي الضبع الأميركي وأعاده إلى قفص التفاوض، بانتظار أن يتعلّم دونالد ترامب من تيلرسون كياسة الحديث ويقرأ جيداً مذكرة الدبلوماسية حول شروط عدم الإفراط بالشراب قبل أن يتحدّث الرئيس، فيكفي أن يقول بوتين لتيلرسون إنّ أميركا لا تحتاج إلى بوريس يلتسين آخر، فاسألونا لقد خضنا التجربة قبلكم.