روسيا ترفض دور الدولة الإقليمية

د. وفيق إبراهيم

تعرف الولايات المتحدة الأميركية أنّ قصف مطار الشعيرات لا يعطّل قدرات الجيش السوري ولا حركة طائراته الحربية.. الدليل ليس غامضاً، فالطائرات السورية تواصل القصف حتى من المطار المقصوف نفسه، والوحدات العسكرية تواصل تحرير القرى والبلدات من دون خوف.

هذا استنتاج يحظى بإجماع عام…

لذلك يجب التفتيش عن أسباب أخرى لتفسير القصف الأميركي؟

كانت روسيا تُمسك بزمام المبادرة في سورية تدعم الجيش السوري وحلفاءه بالقصف والتخطيط والدعم بالسلاح، ما أتاح فرصة تحرير مناطق واسعة.

وتجلّى هذا التعاون في مفاوضات جنيف، مخلّفاً أثراً على مستوى التماسك داخل المعارضة المسلّحة، فكادت أن تنهار رغم الدعم التركي والغطاء الأميركي، وتبادلت مكوّناتها الشتائم كما تلقّت سلسلة اتهامات بالعمالة تزامنت مع هجمات عسكرية من تنظيمات أكثر تكفيرية موضوعة على لوائح الإرهاب في مجلس الأمن الدولي.

وابتدأ الروس يرعون مصالحات داخلية بين الدولة وقسم من المتمرّدين عليها، حتى أنّهم ذهبوا أبعد من ذلك بنسج علاقات مع قسم من الأكراد من جهة، وفصائل من المعارضة السورية من جهة ثانية، فارضين على تركيا تفاهماً حصرها في نطاق ضيّق، لكنّه حقق لها جزءاً من حركتها التاريخية المتعلقة بلجم إمكانية تشكيل دولة كردية في شرق سورية. أما الجزء الآخر «العثماني» فأصيب «بشلل روسيّ». هذا بالإضافة إلى نجاح موسكو برعاية «منصة معارضة سورية» موالية لها، إلى جانب نجاحها بمهادنة السعودية في اليمن وتوثّبها لأداء دور في العراق، وانفتاحها على مصر واستعدادها للقفز إلى ليبيا باستقبالها اللواء حفتر…

ولموسكو علاقات مع الجزائر تتمتّع بشيء من العمق التاريخي. وهكذا جمع الروس بين القوة العسكرية والتمدّد السياسي، أمّا الذي استثار الأميركيين وجعلهم يعيشون وهم عودة الحياة إلى الاتحاد السوفياتي، فهو الدور الروسي النشيط في فنزويلا وبوليفيا والبيرو، إلى جانب علاقة موسكو بالبرازيل العضو في مجموعة «بريكس»، والتي تتحيّن الفرص لإعادة الحيوية إلى أعمالها الاقتصادية وبالتالي السياسية المناهضة للأحادية الأميركية.

ومع تولّي دونالد ترامب الرئاسة الأميركية، شعر الأمن القومي الأميركي بهذا التطوّر في الدور الروسي الذي يتّخذ من سورية محطة لمعاودة الإقلاع نحو أهداف أخرى. فقدّم البيت الأبيض قراءة بضرورة تفكيك كلّ العناصر الداعمة للدور الروسي، أو مستفيدة منه أو قد تشكّل بالتحالف معه «قوة كونية لا تُنافس»، لذلك أطلق ترامب أهدافاً اعتبرها الأكثر عداءً لبلاده، منتقياً المسلمين والصينيّين، وكان بذلك يحاول تجريد الروس من وسط العالم النفطي والاستراتيجي حيث يوجد العرب، ويعرقل انطلاقة الصين المنافس الاقتصادي الجدّي والمخيف. ألم يقل الكاتب الأميركي صموئيل هنتنغتون في كتابه صدام الحضارات: «إنّ الإسلام والكونفوشيوسيين هم أعداء الحضارة الغربية»؟! وللإشارة، فإنّ كونفوشيوس هو فيلسوف صيني يؤمن الصينيون بمبادئه إلى حدود القداسة.

أما وسط العالم فهو «الشرق الأوسط» العربي، لكن لماذا استثنى الأميركيون الروس من خطّتهم؟ لأنّ مكاتب الأمن القومي تعتقد أنّ روسيا دولة ضعيفة اقتصادياً، تراجعت صناعاتها غير العسكرية، لذلك تبيع الغاز لتغطية أربعين في المئة تقريباً من موازناتها. أمّا بكين، فتكاد موازنتها تعادل الأميركية، وقد تسبقها في عقد فقط أو أقلّ.

بالإمكان إذاً كما استدلّ الأكاديميون إيقاف الزحف الروسي بالمكابح الاقتصادية، على شاكلة خلق منافسات قوية في أسواق الغاز والنفط مع «الشرق الأوسط»، فينهار الاقتصاد الروسي أو قد يؤدّي إلى تمرّد داخلي على إدارة بوتين محدثاً كارثة سياسية، فتجد موسكو نفسها مضطرة للعودة إلى عصر يلتسين الذي أدار روسيا ورائحة الخمر تفوح من فمه ويكاد لا يستطيع الانتصاب على قدميه. إلّا أنّ حسابات المكاتب الأنيقة لم تتقاطع مع نتائج الميادين، وتبيّن أنّ التساهل الأميركي مع الدور الروسي في سورية لم يعطِ المراد منه… كادت المعارضة أن تتشرذم وتسقط تحت ضربات الحلفاء السوريين والروس والإيرانيين.

ولم تُبدِ الصين أيّة إشارات وهن أو ضعف أو مجرّد تراجع صغير. ظلّت مصرّة على مبادئ التجارة الحرّة التي يعتبر الرئيس ترامب أنّها أساس التراجع الاقتصادي الأميركي، أو ما يسمّيه «البلاء الكبير». هذا البلاء الذي يدعم كوريا الشمالية التي تابعت تجاربها الصاروخية، بطريقة توحي وكأنّها رسائل صينية إلى الكاوبوي الأميركي وعنوانها رفض الامتثال والانصياع.

وكذلك فعلت إيران التي واصلت بدورها إطلاق صواريخ باليستية بدافع التجربة من دون أن تعبّأ بالتهديدات الأميركية والغضب السعودي الخليجي، وتابعت بتعميق نفوذها الإيجابي من آسيا الوسطى إلى سواحل لبنان. وهكذا لم تمضِ أشهر معدودة على ولاية ترامب حتى تكوّنت الصورة التالية:

تراجعت ثقة الأصدقاء في فرنسا وبريطانيا بالإدارة الأميركية، حتى أنّهم بدوا كـ»الرواديد» يهاجمون حين تهاجم واشنطن، ويتراجعون بعد تراجعها. ما أظهرهم أمام العالم مجرّد مقلّدين من فئة الكومبارس يحاول التقاط ما يرميه أصحاب الأدوار الأساسية من أدوار هامشيّة تنفع للأفلام الكوميدية فقط في بلدان العالم الثالث. ينطبق الأمر أيضاً على ألمانيا.. لكن ما أخافَ واشنطن هو انطلاق موجة خوف في دول أوروبا الشرقية والقوقاز وآسيا الوسطى التي كانت قد انتقلت من المحور السوفياتي القديم إلى العباءة الأميركية. هؤلاء أُصيبوا بهلع لنموّ الدور الروسي وما يعنيه هذا النموّ من عودة «الكماشة الروسية» التاريخية.

أمّا تركيا، المستاءة من إهمال واشنطن لطموحاتها، فأخذت تقترب من الروس لابتزاز الأميركيين واستيعاب غضب موسكو في آنٍ معاً، مع محاولة كبح مشروع الدولة الكردية من جهة ثالثة. هذا المشروع الذي يرعاه الأميركيون ويمنعون الأتراك من القضاء عليه أو حتى الاقتراب منه بشكل عدائي.

يتبقّى دول الخليج التي لا تزال تنوح منذ تشكّل الدولة الإسلامية في إيران العام 1979، والأسباب ليست واضحة.. وإلّا كيف نفسّر دعم هذه الدول لصدام حسين بغزو إيران قبل بدء إيران بإنتاج وقود نووي؟ الحجة النووية إذن باطلة، ما يكشف أنّها تؤدّي دوراً لخدمة الأميركيين و«الإسرائيليين» متقاطعاً مع خلفيات سياسية خاصة بها، فهي لا تريد نموذجاً إسلامياً متطوّراً قبالتها على الشاطئ الآخر للخليج، وتفضّل حرباً أميركية ضدّ إيران وتحالفاتها في سورية والعراق واليمن.

هذه هي الصورة التفصيلية التي وضعها الأمن القومي الأميركي أمام ترامب لوضع بلاده، ولا بدّ أنّهم «أفهموه» أنّ عودة روسيا إلى «الشرق الأوسط» لا تعني إلا تراجع الدورين السياسي والاقتصادي للولايات المتحدة وبقوّة. ولا بدّ أنّهم «أفهموه» أنّ تقاطع هذه التراجعات الأميركية الخارجية مع نموّ المعارضة الداخلية، من شأنه دفع واشنطن إلى مواقع صعبة في عالم مضطرب قد يكسر حاجز الخوف ويتمرّد على هيمنتها الكونية.

قد تبدو المخاطر المعروضة أكبر من حجم قصف مطار الشعيرات، لكنّ المتعمّق يدرك أنّ محاولة إيقاف العجلة الروسية في سورية لا يمكن تفسيرها إلا بمحاولة للجم التدحرج الروسي العالمي، وذلك عن طريق إعادة إنعاش «المعارضة» السورية والحيلولة دون انهيارها، مع الإيعاز للطرفين التركي والأردني بتمرير سلاح وإرهابيين وتدريب التكفيريين بأموال خليجية كما يحدث.

المطلوب إذاً، إيقاف التمدّد العسكري السوري وإيقاع الروس في خضمّ حرب شرسة ترتدي طابع حرب العصابات، ما يسمح لقوات كردية وعشائر عربية وجيش أردني وعسكريين أميركيين بهندسة المنطقة السورية من الرقة وحتى الحدود العراقية والأردنية، بما يخدم «أسر» التقدّم الروسي ضمن إطار الدولة السورية فقط وبإطارها الحالي.

لذلك، يعتبر قصف مطار الشعيرات رسالة مزدوجة.. قسم منها إلى المعارضة وحلفائها بالعودة إلى التحرّك العسكري، والآخر إلى روسيا لإفهامها بأنّ انتقالها من وضعية دولة إقليمية إلى مرحلة مرجعية عالمية غير مسموح أميركياً، وواشنطن ستعرقله في سورية والعراق، ولن تسمح بعد اليوم لحليفتها تركيا بمغازلة موسكو.

وتعتبر واشنطن أنّ الخط الذي يجب أن تقف عنده موسكو في سورية، هو خط تدمر حتى حلب. وهذا الأمر يمنع روسيا من العودة إلى فضاء الاتحاد السوفياتي وتبقى واشنطن المرجعية العالمية الوحيدة.

هذا ما يريده البيت الأبيض، لكنّه ليس قدراً محسوماً، وبإمكان الحلف الروسي الإيراني السوري المبارك بأدعية صينية أن يؤكّد للأميركيين أنّ مرحلة الأحادية قد ولّت إلى غير رجعة، والميدان السوري الذي يتهيّأ لهبّات ساخنة هو الدليل على صحة هذه المقولة المرتقبة.

اترك تعليقاً

Back to top button