حروب أميركية ـ روسية في سورية والعالم بأشكال جديدة!

د. وفيق ابراهيم

الحروب بين الدول الكبرى لم تعُدْ كما كانت في المرحلة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، من صدامات مباشرة بين القوى الأساسية… أصبحت تتسمُ بثلاث مميزات مستجدة: إنها قتال بأشكال مُواربة تجمع بين أدوار عسكرية محدودة جداً للدول العظمى مع تورّط أكبر لدول ميادين النزاعات المحلية والإقليمية.

أما الثانية فترتبط بالانسداد الكامل في حركة التفاهمات السياسية بين القوى الكبرى. وهناك عامل ثالث وهو استمرار القوى الأساسية في إنكار أيّ تغيير يحدث في موازين القوى العالمية الجديدة.

أهذا ما يجري في سورية؟ يتبيّن أنّ الولايات المتحدة الأميركية متورّطة في الأزمة السورية منذ بداياتها، أيّ قبل أكثر من سنينها السبع. وترعاها بإحاطة كاملة تحشيداً وتسليحاً وتمويلاً وإعداد أكبر حرب إعلامية في التاريخ لشيطنة النظام السوري، والتعامي المقصود عن تشكل أكبر حركة إرهابية في التاريخ… هذا بالإضافة إلى المشاركة المباشرة في إقناع دول الإقليم بالتورّط فيها، والمساهمة في تدريب وحدات كردية وعربية وأخرى من تنظيمات زعمت واشنطن أنها معتدلة وتبيّن لاحقاً أنها من القاعدة أو داعش.. وللأميركيين قواعد ومدرّبون وبضعة آلاف من الجنود ينتشرون في شرق سورية وجنوبها، مدجّجين بأكثر الأسلحة تقدّماً وفتكاً في العالم إلى جانب قواعد جوية فيها أحدث الطائرات المقاتلة.

بين دول ميادين القتال المأمورة أميركياً، هناك تركيا التي استعملها الأميركيون في «أدوار سوريّة محدودة» اعتقدوا أنها كافية لخلخلة الدولة السورية وإسقاطها. لكنهم لجموها عندما شعروا أنّ الطموحات التاريخية التركية بدأت بالاستيقاظ.

كما حرّك البيت الأبيض أدوار الدعم المادي السعودي والقطري، فاتحين أسواق شراء السلاح من أوروبا الشرقية وكوريا الجنوبية ومنافذ أخرى في ليبيا، وتعاونوا مع تركيا في فتح حدودها لأضخم انتقال لمجموعات إرهابية كونية تعدّت المئة ألف شخص.

كانت واشنطن تريد إسقاط الدولة السورية في أشهر قليلة.. لكنها فشلت.. فعادت إلى الزجّ بعنصرين جديدين: هما الأردن و«إسرائيل» مع محاولة الاستعانة بخدمات مصر المعنوية والعسكرية إذا كان ذلك ممكناً.. عمّان الهاشمية اليوم بالمباركة الأميركية المتجسّدة بآلاف المدرّبين الأميركيين مع مظلتهم السياسية تحاول العبث في الجنوب السوري وخلق الظروف الموضوعية لبناء «مناطق آمنة» مزعومة تنعش المشروع الأميركي في المنطقة.

«إسرائيل» أيضاً تحرّكت في نسق له هدفان: دعم التنظيمات الإرهابية بعدم السماح للجيش السوري بالقضاء عليها، بقصفها مراكزه، المقابلة للجولان المحتل. وبذلك يستطيع هذا الإرهاب أن يعتبر هذه المناطق مثابة مناطق محمية تمتدّ إلى جنوب درعا لتشكل ما تريده واشنطن من تقسيم سورية إلى كانتونات كاملة المواصفات لها أدوار في الجيوبوليتيك الأميركي الذي يريد الإمساك بالمنطقة لأكثر من مئة عام.

على مستوى الانسداد الكامل في حركة التفاهمات الروسية ـ الأميركية، فبدأ مع تمكّن الدولة السورية بدعم روسي ـ إيراني من الصمود في وجه هجوم كوني شبيه بالحرب العالمية الثانية، وذلك في سبع سنين ضروس لا تزال متواصلة، وأثبت فيها نظام الرئيس بشار الأسد أنه الأقوى في سورية والمعبِّر الفعلي عن الشعب السوري. فلا إمكانية لأي نظام أن يستمرّ مهما بلغت قوته، إذا كان الإطار الشعبي غير موجود.. ألم يكتنز شاه إيران السابق ترسانة سلاح أميركية هي الأضخم إقليمياً، وأسقطهُ الشعب الإيراني بالقبضات العارية؟

لم تُذعن واشنطن لهذه الحقائق الميدانية الواضحة. ولا تزال تعاند وتوارب في محاولات مكشوفة لإعادة بناء ظروف جديدة للحرب على الأسد. ورفضت الإقرار بالدور الروسي الجديد لأنها تعلم أنّ له مترتبات أخرى على مستوى تراتبية القوى في العالم.

هذا ما يقود مباشرة إلى السمة الثالثة للدور الأميركي وهي رفض أيّ دور روسي خارج إطار الدولة الإقليمية، في إطار محدّد فقط هو إطار الدولة السورية. وهذا يعني رفضاً أميركياً مطلقاً للنجاحات التي حققها التحالف السوري ـ الروسي ـ الإيراني. واستبعاد أيّ تكريس لموازنات قوى جديدة.. مع الإصرار على التفرّد الأميركي في إدارة العالم بالشكل الذي ابتدأ منذ 1990 مؤدّياً إلى مئات آلاف القتلى في بلدان اجتاحتها واشنطن بأسباب مختلفة ومريبة ودمّرتها. وتبيّن لاحقاً أنّ المبرّرات الأميركية لتلك الحروب لم تكن صحيحة ـ بالإضافة إلى أنّ نتائجها لم تؤدّ إلى ما كانت تعلن عنه واشنطن من نشر للديمقراطية وضرب للإرهاب وتعزيز الوضع الدولي…

لذلك يجتاز العالم أسوأ مراحل تاريخه. ها هو الإرهاب يضرب في العواصم والحواجز كلّها ويسجّل الاقتصاد الدولي أدنى نتائجه.

تمرّ أميركا إذاً في مركلة إنكار للواقع السياسي المستجدّ وتعرض عبر الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني على روسيا تسوية على أساس القاعدة التالية: اعتراف أوروبي ـ أميركي بما تُمسك به موسكو في أوكرانيا مقابل إسقاط الرئيس الأسد في لعبة الاستمرار بإنكار المتغيّرات. والدليل أنّ البيت الأبيض أعلن عن عقوبات جديدة على أكثر من مئتي شخصية علمية سورية بذريعة أنهم يساهمون «علمياً» في إنتاج أسلحة كيماوية.. ولا يزال البيت الأبيض يرفض أيضاً إجراء تحقيق شفاف في مزاعمه عن قصف الجيش السوري لبلدة خان شيخون بالكيماوي. وهذا يندرج في إطار الإصرار على بناء «اللحظة التاريخية المفبركة» لاتهامات خان شيخون على أساس تجاهل رفض كشف الحقائق والاستمرار بالاتهام واختراع لجان تقوم بالتحقيق عن بُعد أو بواسطة شهود موجودين في تركيا «البريئة».

هناك إذاً «إنكار للواقع الجديد»، ورفض حقيقة بدأت بالتبلور مفادها أنّ «الغرب بدأ يَخْسَر منصب «قيادة العالم» الذي احتكرهُ في القرون الثلاثة الماضية. وتخلّله دخول الاتحاد السوفياتي نحو خمسة عقود فقط على خط المشاركة في هذا المبدأ الحصري. لكن انهياره في 1990، أعاد الوكالة إلى الغرب المتأمرك الذي يواصل الضرب في أيّ بقعة تحلو له وسرقة أيّ موقع اقتصادي من دون حسيب أو رقيب.

لذلك، فإنّ هناك ملامح حرب باردة جديدة بدأت بالتشكّل على جهة الأحلاف والمحاور في العالم إلى جانب ازدياد الحشود العسكرية وتدهور علاقات سياسية وصخب عسكري وينطلق من بحر الصين وكوريا الشمالية وسورية واليمن والعراق. وهذه إشارات إلى دخول العلاقات الدولية في نفق مواجهة خطيرة، كانت العادة أن تنفجر بشكل موارب في أقاليم التوتر.. ويبدو أنها تنحو إلى تبني هذه الطريقة إنما مع تورّط أكبر للدولة الأساسية.. باعتبار أنّ السلاح أكثر ذكاء ولم يعد يحتاج إلى قوات ضخمة تكفي بضعة آلاف فقط مع أسلحة حديثة ذكية لتأدية أدوار فيالق كبرى، كانت في الحروب السابقة تجتاح بنعالها وآلياتها التقليدية أوروبا وأفريقيا وآسيا.

هناك إذاً اتجاه من القوى العظمى إلى مزيد من التورّط في الحروب الإقليمية بشكل مباشر إنما محدود لجهة عديد الجنود. وهذا قد يؤدّي إلى صدامات مباشرة بينها فيتطوّر إلى حروب عالمية مفتوحة.

فهل بوسع الرئيس ترامب الذهاب إلى هذا المستوى من التصعيد؟

… من الآن وحتى التشكّل الكامل لإدارته تعتقد موسكو بإمكانية العودة إلى تفاهمات عميقة لإدارة الأزمات الدولية بين البلدين.

ويجب الإقرار بأنّ روسيا تمسك بالكثير من الملفات الدولية ولم تعد ترضى بإشارات أميركية فوقية الطابع تزعم احترام واشنطن لمصالحها.. لأنها تريد صفقة كاملة في ملفات إقليمية ودولية وازنة.

وبذلك تسقط سياسات إنكار الواقع المستجدّ التي تعتصم خلفها واشنطن، ومعها دول أوروبية تعمل في إطار الفلك الأميركي لتلتقط ما يتساقط من منافع في لعبة الصراعات الدولية.

يتبيّن إذاً أنّ العلاقات الدولية أمام احتمالين اثنين لا ثالث لهما: عناد أميركي برفض الاعتراف بموازين القوى الدولية الجديدة وهذا يدفع نحو حرب باردة قاسية، يترتّب عليها المزيد من التدهور الاقتصادي والحروب الإقليمية التي قد تتدحرج نحو مستويات أخطر.

أما الاحتمال الثاني فهو الإقرار الأميركي بسياسة التشاور مع روسيا في العلاقات الدولية، وهذا يعني ولادة نظام متعدّد القطب يؤدّي تلقائياً إلى تخفيف حالات الاحتقان مع تحسين الأوضاع الاقتصادية والإنسانية ومكافحة المشاكل الفعلية للبشرية في الطاقة والمناخ والتجارة.

لذلك ينتظر الوضع في سورية آفاق الحوار الأميركي ـ الروسي ـ لكن ما تفعله واشنطن حالياً على الأرض السورية هو إعلان لبدء حرب باردة قاسية، يعتقد بعض الخبراء أنها محاولات لتحسين شروطها في لعبة التفاوض المقبلة.

ويبقى الرهان كبيراً على الجيش السوري وحلفائه في فرض لغتهم وتوفير الفرص النموذجية للدفاع عن سورية أولاً ودعم روسيا في مفاوضاتها لإنقاذ العالم من جنون ترامب ثانياً.

اترك تعليقاً

Back to top button