تركيا وإيران واختبار أستانة معاً
ناصر قنديل
– لم تنقطع العلاقة التركية الإيرانية حتى في ذروة التقاتل وجهاً لوجه من وراء المتاريس السورية، وفي زمن المواجهة الروسية التركية بقيت إيران وتركيا تتركان للمصالح المشتركة أولوية على الغلو في قضايا الخلاف، لكن ذلك لم يمنع حقيقة كون المواجهة الدائرة في المنطقة مواجهة تركية إيرانية بشكل من الأشكال وتعاون تركي إيراني بشكل آخر. فالمواجهة بين المشروع الأميركي وخصومه تتلخّص على مستوى المنطقة بمواجهة مباشرة قادتها تركيا لنقل سورية إلى الضفة الأميركية، وفقاً لمسؤولين إيرانيين فاعلين مع تركيا صارت الحرب على سورية ممكنة وبدونها ما كان ممكناً لها أن تكون، ولا ضير من ذلك لكون الخطاب السعودي العدائي لإيران أو لسورية او لحزب الله يتخطّى سقف الخطاب التركي لتصير السعودية الطرف المقابل في الخصومة، لأن الخطاب السعودي صارت له قيمة في سورية، لأنه على الضفة ذاتها مع تركيا الجار الأكبر لسورية والعضو في الحلف الأطلسي والقيادة العالمية للأخوان المسلمين. وبالمقابل تخوض تركيا عندما تدقّ ساعة التسويات الحرب ضمن حلفائها لتكون هي المفاوض، وهي الشريك الممثل لحلفائه في صناعة السياسة. وهذا شرطه قدرة التعاون مع إيران، ومثلما تتقن تركيا الخصومة تتقن التعاون، وتتقن ما بينهما.
– عندما كان المفهوم الأميركي للعملية السياسية كوعاء لترصيد هزيمة سورية وحلفائها، وفي مقدمتهم إيران، كانت الترجمة الحسية لذلك الإصرار على استبعاد إيران من حضور جنيف بفيتو سعودي تبنّاه الأميركيون فالتزم الأمين العام للأمم المتحدة وسحبوا الدعوة الموجّهة لإيران للحضور، وفقاً لتعهدات أممية لروسيا بوضع إيران على قدم المساواة مع الدول الإقليمية المشاركة ولو وحيدة بين خمسة خصوم، هم تركيا والسعودية وقطر والأردن والإمارات، وكان واضحاً أن تغير المفهوم الأميركي للعملية السياسية كإطار لإسقاط الرئيس السوري جاء بقوة التغير في ميادين القتال، كما كان واضحاً أن هذا التغيير المتدرّج ترافق مع تحوّل متدرّج بالدور الإيراني، من التهميش والإقصاء إلى دور هامشي بالحضور رمزياً وصولاً لشراكة فاعلة في مؤتمر فيينا بعد التموضع العسكري الروسي وتحوّلات الوجبة الأولى من عاصفة السوخوي والدور الإيراني في هذه التحوّلات، حتى جاء تحرير حلب من الجيش السوري وحلفائه وانطلاق مسار أستانة، لتفرض إيران حضورها كشريك ثالث بالتوازي مع تركيا مقابل تسليم دولي وإقليمي بقيادة روسيا لهذا المسار.
– روسيا التي انتقلت بدورها من شريك درجة ثانية في مسار جنيف تعلم أن التغيير في الميدان وسقوط مشاريع عسكرية وضعت في واشنطن وأنقرة للسيطرة على سورية، هي التي جعلتها نداً مقبولاً من واشنطن، وصولاً للتسليم بدورها المقرّر، الذي ترجمته صيغة أستانة. وإذا كان الخروج المؤقت من أستانة قد تزامن مع أوهام تغيير الميدان العسكري في غزوات دمشق وحماة على خلفية مرحلة تسلّم الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب وضرباته والغارات «الإسرائيلية» المرافقة، فإن عودة الحياة لمسار أستانة تتم على خلفية سقوط هذه الرهانات سواء في واشنطن أو في أنقرة.
– بمثل ما انتزع الاعتراف بالقيادة الروسية للمسار السياسي في سورية بعد ممانعة ومحاولات تغيير، يتعرّض الدور الإيراني لمحاولات تعطيل تريد ضمناً الاحتجاج على حسم تركيا شريكاً مقابلاً على حساب الحليف السعودي الذي تتخذه واشنطن شريكاً في المواجهة مع إيران، ويتشارك «الإسرائيلي» مع السعودية في هذا الاحتجاج، بأصوات جماعات مسلحة سورية، لا تريد التصادم مع تركيا، لكنها ترى في مشاركتها بتكريس إيران مرجعية في الحل، مقابل احتكار تركيا لتمثيل الضفة المقابلة رسماً لنظام إقليمي جديد تقوده روسيا، لم تستقر توازناته النهائية وتثبت بعد، وربما يتقرّر مصيره بما تحمله الأيام المقبلة عن كيف سيكون الحال على الحدود السورية العراقية التي تشكل ممر إيران الإلزامي إلى سورية وعبرها إلى حركات المقاومة، هل سيكون للجيش السوري والحشد الشعبي، أم سيسيطر عليه الأميركيون والميليشيات التي تحدثوا كثيراً عن دورها عبر الحدود الأردنية نحو البادية السورية وخط الحدود السورية العراقية؟
– مَن يقرأ الخارطة العسكرية لحركة الجيش السوري يدرك أن مسار أستانة الجديد ومناطق التهدئة لا يفسّرهما يقين بنضج الحل السياسي، ولا ثقة بجدية تركيا بفصل الفصائل المسلحة عن النصرة، بل خطة سورية إيرانية روسية مع المقاومة لحسم الوضع في البادية والحدود السورية العراقية، وبعدها يكون مشهد مختلف على الأصعدة السياسية والعسكرية كلّها.