قراءة أبعد لـ«مناطق تخفيض التصعيد»
حسن شقير
وأخيراً، وبعد كثيرٍ من الجهد العسكري، وبعد صبرٍ استراتيجي طويل، فرضت روسيا خريطة طريقها المتعلقة بمقاربتها كيفية نزع صواعق ألغام الحرب على سورية، وذلك من خلال انتزاعها وثيقة أستانة 4، والتي ما كانت لتتحقق، من دون أن تحوز الموافقة المبدئية من مجمل أطراف الدول المتدخلة في الحرب على سورية، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، والكيان الصهيوني، وتركيا، فضلاً عن إيران، مع أخذ الموافقة المسبقة للدولة السورية عليها. وهذا ما نقله نائب وزير الدفاع الروسي ألكسندر نوفين عندما صرّح بأن «بلاده أجرت مشاورات مكثفة مع كل من تركيا وإيران وإسرائيل».
لم تكن هذه الوثيقة، وليدة اللحظة لدى القيادة الروسية، إنما كانت قد طرحتها ضمن اجتماع رباعي لوزير خارجيتها لاڤروف مع ثلاثة من نظرائه في ڤيينا، جون كيري، وأحمد دواود أوغلو، ووزير الخارجية السعودي عادل الجبير، وذلك قبل اجتماع ڤيينا الأول بأسبوع فقط، ليخرج بعدها الوزير الأميركي في حينه، معلناً، بأننا «اتفقنا على إطلاق دينامية جديدة للحل في سورية، لن نعلن عنها الآن..». والتي سرعان ما تُرجمت ببيان ڤيينا 1، ومن ثم بالقرار الدولي 2254.
منذ ذاك التاريخ – ورغم كل النجاحات العسكرية الروسية ومعها أطراف محور الممانعة -، لم تحِد روسيا عن سياسة تدوير الزوايا في سبيل البحث عن الحل في سورية، وذلك لعلمها بطبيعة الحرب الكونية التي تُشنُّ عليها، هذا فضلا ً عن استشراس الفاعلين الدوليين الآخرين في توجيه دفة الصراع فيها.
من المفيد التذكير هنا، بأن سياسة روسيا، ومنذ تدخلها المباشر في سورية في خريف العام 2015، اتبعت استراتيجية نزع صواعق الألغام التي حاولت أميركا زرعها وتفجيرها في طريق المأمول الروسي – الإيراني، وذلك في عملهما الدؤوب لإفشال ما رسمته أميركا وتحالفها لهذه الدولة، فكان اتفاق الكيميائي عام 2013، مانعاً لتهديم كل ما راكمته هاتان الدولتان في سورية، فيما لو نفّذت أميركا تهديدها يومذاك.. وكان اتفاق «وقف العمليات العدائية»، مانعاً للتدخل الأميركي فيها، وذلك بعد تشكيل ما سُمّي بالتحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب. وهذا ما أكده الرئيس بوتين في حينه عندما قال، بأن «مفاعيل ذاك الاتفاق في وقف العمليات العدائية، كانت كتلك التي نتجت عن الاتفاق الكيميائي المذكور« في منع تحالف أميركا من الدفع بـ»ألاعيب خطرة»، على حدّ وصف الوزير لاڤروف في حينه واستمرت سياسة روسيا، حتى إطلاقها مسار أستانة، والذي فرمل مشروع ترامب الجديد في إقامة «المناطق الآمنة»، وفقاً للرؤية الأميركية، وذلك لصالح مشروع مناطق «تخفيض التصعيد»، والذي يختلف جذرياً في طبيعته وأهدافه عن المشروع الترامبي.
إذاً، وضمن هذه الاستراتيجية الروسية المتبعة في نزع صواعق الألغام الكبرى في الحرب على سورية، ستكون لوثيقة أستانة الأخيرة – إذا ما استكمل السير بها -، جملة من المفاعيل الأساسية التلقائية في مسار هذه الأزمة، والتي يكاد يكون من أهمها، متمثلا ً في حشر تحالف أميركا ضمن مسار محدّد، لن تكون نتائجه كما تشتهيه سفن هؤلاء فيها، وإن بالقدر الذي كانوا يتأمّلونه.. فكيف ذلك؟
– أولاً، وإضافة إلى ما ذكرناه سابقاً، حول جعل روسيا لمشروع «مناطق تخفيف التوتر» يلتفّ حول عنق مشروع «المناطق الآمنة»، فإنه، وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ هدف التوازي بين نتائج مساري أستانة وجنيڤ عند حلفاء أميركا في الميدان، سيُضحي ماضياً، لكون ما تمخض عن أستانة، قد اعتبرته الدول الثلاث الضامنة، جزءاً لا يتجزأ من مسار جنيڤ التفاوضي، وذلك بحسب ما أكده الوزير الكازاخي، وعليه، فإنّ حلم ما يُسمّى بالمعارضة المسلحة، في الضغط الميداني لتحقيق مآرب سياسية، كما تشتهيها من نتائج مباحثات جنيڤ، أصبح وراء ظهر الدولة السورية. وهذا بحدّ ذاته له مفاعيله الميدانية والسياسية الهامة على حدّ سواء في المرحلة المقبلة.
– وثانياً، واستكمالاً لمحطات التفاوض التالية في جنيڤ، سيكون بعض المعارضة السياسية، متمثلاً بالهيئة العليا للمفاوضات، تحت سيف التفاوض السياسي، من دون أية إمكانية لرفع سلاح العودة مجدداً إلى الميدان. فهذه الورقة أضحت ساقطة، بفعل أستانة، وعليه فإنها ستكون مرغمةً على اتخاذ سلوك محدّد في ما خصّ إجراءات الثقة، والمنصوص عليها في الوثيقة، وذلك طوال الفترة الزمنية المقبلة، التي ستسبق بلوغ المحطّات الانتخابية النيابية وحتى الرئاسية منها. وبالتالي فإن التوافق السياسي، سيكون ممراً إلزامياً، أمام المكوّنات السياسية المعارِضة، في مؤتمرات جنيڤ اللاحقة، وصولاً إلى تلك الاستحقاقات الدستورية في سورية، وخصوصاً لجهة دور الفئات الشعبية المفترض، والتي لا بدّ أن تكون لها الحصة الوازنة في سلة الدستور السوري، الجاري التفاوض بشأنه.
– ثالثاً: إذا ما قُدٌِرَ لقطار أستانة، بأن ينطلق نحو محطاته المفترضة، فإنّ ذلك سيعني، بأنّ أحد مسارات دي ميستورا الأربعة، والتي تُعنى بالوضع العمراني والخدمي في مناطق تخفيف التوتر، سيُدفع بالانطلاق به، من قبل الدول والأطراف المنخرطة في أزمة سورية، إضافة ً إلى ذلك، فإن «تذوّق» الناس، لنعمتي الأمن، والنهوض المجتمعي، سيشكل – وبلا شك -، عاملاً ضاغطاً جداً، على كل تلك المجموعات المسلحة هناك، والتي قد تُفكّر يوماً بالعودة إلى لغة السلاح، ولأجل ذلك فإنّ المرحلة المقبلة من أستانة، سيكون الدفع الروسي، ومعه الإيراني تحدّياً لهما، وذلك بتحفيز التركي وغيره من دول الإقليم المؤثرة في الميدان السوري، بأن تلتحق بهذا الركب، والذي يمكن له أن يؤمٌن استمرارية التأثير السياسي لها.
رابعاً: ميدانياً، من شأن مسار أستانة، أن يجعل – وبعد فرز خرائطها الجغرافية في الرابع من حزيران المقبل – من مناطق تخفيف التوتر، بقعاً جغرافية، يُحشر فيها الإرهابيون و»المعتدلون»، على حدّ سواء، وبالتالي، فإنه – وإذا ما نحينا جانباً إمكانية التصادم العسكري بين هذين المكوّنين، والذي لا يمكن استبعاده – من الممكن، أن تكون الإجراءات التي يمكن أن تتخذها أميركا ورعاة الجماعات المسلحة الأخرى من دول الإقليم، أشبه بحربٍ ناعمةٍ، تعتمد على الجاذبية والتحفيز، وذلك لضمان تسرّب الإرهابيين، نحو «المعتدلين»، وليس بالعكس، وذلك يكون ربحاً صافياً لمحورَيْ روسيا وأميركا في سورية على حدّ سواء.
أخيراً نقول، بأن موافقة سورية وإيران، على ضمّ منطقة الجنوب السوري برمّته، إلى مناطق تخفيض التصعيد، يعني بأن كل أماكن السيطرة الميدانية على مقلبي الدولة السورية وحلفائها من جهة، و»المعتدلين» من جهة ثانية، سيبقى على حاله هناك، وخصوصاً على تخوم الجولان المحتل، وذلك إذا ما استثنينا منطقة حوض اليرموك، والتي تحتلّها جماعاتٌ عسكرية مرتبطة بداعش، وبالتالي فإن ذلك يُظهر، بأن تنسيق روسيا المسبق – وبحسب وزارة الدفاع الروسية -، مع الكيان الصهيوني، لربما يكون قد أفضى إلى أن تكون تلك المنطقة من سورية، قد دخلت فعلياً في زمن «التحرّف للقتال»، أما منطقة مثلث الحدود السورية – الأردنية والعراقية، فإن عدم شمولها بمناطق تخفيف التوتر، وذلك على الرغم من وجود ما يُسمى بجيش العشائر في معبر التنف، والذي يحاول التمدد صعوداً نحو معبر القائم على الحدود العراقية السورية مقابل البوكمال السورية، فإن ذلك أيضاً له دلالات لجهة خطوط إيران وروسيا الحمراء في تلك البقعة من سورية.
باحث وكاتب سياسي